نقلا عن المصري اليوم


قس وخطيب وثائر وطنى يُعد نموذجاً حياً لمعنى الوحدة الوطنية، لم يعبأ بمنصب ولم يخف من سلطان، عاش حاملاً رأسه فوق يديه ووقف فى وجه الإنجليز فى مصر والسودان وخطب فى الأزهر وفى مسجد ابن طولون وفى العديد من مساجد مصر وألهب مشاعر المصريين جميعاً بما وهبه الله من موهبة الخطابة وبلاغة اللسان، إنه القمص سرجيوس المولود بـ«جرجا» فى سوهاج سنة ١٨٨٢م، ورُسِمَ قساً على بلده «ملوى» باسم القس ملطى سرجيوس، ثم عُيِّن وكيلاً لمطرانية أسيوط فى ٣٠ أكتوبر سنة ١٩٠٧م. اشتهر بغيرته على دينه، وألمه الشديد على مجد أمته الزائل، وكان رجلاً ثائراً على كل ما لا يُرضيه، ولكن ثورته اقتصرت فى بداية حياته على تمسكه الشديد بعقيدته.

أصدر الأب سرجيوس مجلة «المنارة المرقسية» فى سبتمبر سنة ١٩١٢م فى مدينة الخرطوم عندما كان وكيلاً لمطرانيتها، وكان هدف المجلة دعوة الأقباط والمسلمين إلى التضامن والتآخى، وتقويم الاعوجاج الذى تأصل فى الأقباط ككنيسة، والضرب عن العادات التى أضلَّت الشعب وأفسدت ما ورثناه من الآباء القديسين، غضب عليه الإنجليز وأمروا بعودته إلى مصر فى أربع وعشرين ساعة، وكانت آخر كلماته للمدير الإنجليزى: «إننى سواء كنت فى السودان أو فى مصر لن أكف عن النضال وإثارة الشعب ضدكم إلى أن تتحرر بلادى من وجودكم».

فى ثورة سنة ١٩١٩م، برز القمص سرجيوس وسط الثائرين، فكان أشبه بعبدالله النديم، إذ وهبه الله لساناً فصيحاً يهز أوتار القلوب إلى حد جعل سعد زغلول يطلق عليه لقب خطيب مصر أو خطيب الثورة الأول. عاش فى الأزهر لمدة ثلاثة شهور كاملة يخطب فى الليل والنهار مرتقياً المنبر، معلناً أنه مصرى أولاً ومصرى ثانياً ومصرى ثالثاً، وأن الوطن لا يعرف مسلماً ولا قبطياً، بل مجاهدون فقط دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء، وقدم الدليل للمستمعين إليه بوقفته أمامهم بعمامته السوداء، وهو نفسه الشخصية التى ظهرت فى أحد أفلام حسن الإمام «ثلاثية نجيب محفوظ» معتلياً المنبر يخطب فى المسلمين مؤكداً الوحدة الوطنية أثناء ثورة ١٩١٩.

ذُكِر عنه أنه ذات مرة وقف فى ميدان الأوبرا يخطب فى الجماهير المتزاحمة، وفى أثناء خطبته تقدم نحوه جندى إنجليزى شاهراً مسدسه فى وجهه، فهتف الجميع: «حاسب يا أبونا، حايموتك»، وفى هدوء أجاب أبونا: «ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت!! دعوه يُريق دمائى لتروى أرض وطنى التى ارتوت بدماء آلاف الشهداء. دعوه يقتُلنى ليشهد العالم كيف يعتدى الإنجليز على رجال الدين».

وأمام ثباته واستمراره فى خطابه تراجع الجندى عن قتله، مرة أخرى وقف هو والشيخ القاياتى يتناوبان الخطابة من فوق منبر جامع ابن طولون، فلما ضاق بهما الإنجليز ذرعاً أمروا بنفيهما معاً إلى رفح فى سيناء.. وكانا فى منفاهما يتحدثان عن مصر، ويتغنيان بأناشيد حبهما لها.

كذلك انشغل فى المنفى بكتابة الخطابات، وإرسالها إلى المندوب السامى البريطانى.. يندد فيها بسياسة الإنجليز، ويعيب عليهم غطرستهم وحماقتهم فى معاملة الوطنيين، وعلى الأخص فى معاملة قادتهم وزعمائهم.

وقضى الأب سرجيوس والشيخ القاياتى ثمانين يوماً فى هذا المنفى، وبعد ذلك ظل يخطب فى كل مكان فى المساجد والكنائس والأندية والمحافل وفى الشوارع والميادين، كتب فى الدفاع عن الإيمان أما فيما يتعلق بالكنيسة، فبالإضافة إلى مجلة «المنارة المصرية» أصدر عدداً كبيراً من الكتب التى دافع فيها عن الإيمان المسيحى، التى رد فيها على الكثير من الأسئلة والافتراءات، ولم يكتفِ فى كتبه بتقديم الأدلة من الكتاب المقدس بل استند أيضاً إلى الكثير من الآيات القرآنية واقتباسات من كبار المفكرين المسلمين، كذلك كتب الكثير من المقالات فى مجلات غير مجلته، كان يوقع عليها باسم «يونس المهموز».

ظل القمص مرقس سرجيوس زوبعة عاصفة إلى آخر نسمة فى حياته بالرغم من شيخوخته، إذ وافته المنية عن إحدى وثمانين سنة، وكان ذلك فى ٥ سبتمبر سنة ١٩٦٤. وأبت الجماهير الشعبية التى اشتركت فى تشييع جنازته إلا أن تحمل نعشه على الأعناق، ثم أبدت الحكومة اعترافها بجهاده الوطنى بأن أطلقت اسمه على أحد شوارع مصر الجديدة بالقاهرة.

وكتب عنه الدكتور محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة فى مقدمة كتابه (الدين والسياسة)، الصادر عن دار «الشروق»، أنه «عندما بدأ التخصص فى تاريخ الأقباط الحديث والمعاصر، بدأ أيضاً فى التعرف على شخصية القس سرجيوس عن قرب.. ووجد ذكراه حية فى قلوب الكثير من أهالى شبرا والقللى».

سيرة حياة القمص سرجيوس ثرية حقاً، عندما يقلب القارئ صفحاتها سيجد مواقف ومعارك مع البابوات والأقباط من كيرلس الخامس حتى كيرلس السادس، ومع الزعامات والشخصيات التاريخية من سعد زغلول إلى النحاس، وحسن البنا، والنقراشى، ومكرم عبيد، والملك فاروق، ومحمد نجيب، وعبدالناصر، إنها سيرة تحطم الحائط الوهمى بين الدين والسياسة فى تاريخ مصر المعاصر.