{وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) } النساء.



ولسانٌ صيرفيٌٌّ صارم

كذباب السيف ما مسّ قطع

منطق كالفجر أو كالغيث ما

شانه عيب كنورٍ قد سطع



طالع دفتر بيانه عليه الصلاة والسلام، وتأمّل ديوان فصاحته، كلام لعمري يأخذ بالقلوب، وحديث والله يأسر الأرواح، صحة مخارج وإشراق عبارة وحسن ديباجة، وانتقاء ألفاظ، ورصانة جمل، حتى كأنّ حديثه روض فوّاح، أو حديقة غنّاء باكرها الغيث وصحبتها الصبا، وداعبها النسيم، وقد آتاه الإعجاز في إيجاز، والبلاغة في اختصار، وقد أخبر بذلك فقال:" أوتيت جوامع الكلم" أخرجه البخاري 2977 ومسلم 523 واللفظ له عن أبي هريرة، وفي رواية:" واختصر لي الكلام اختصارا". أخرجه البيهقي في الشعب 1436 عن عمر رضي الله عنه وانظر كشف الخفاء 1\14-15.
ولكن إن تنظر فيما صحّ عنه من أحاديث قولية، وهي ما يقارب العشرة آلاف حديث، فإذا هي شملت كل فصول الحياة وأبواب الآخرة وأخبار الماضي ومعجزات المستقبل، وإن شئت أن تعرف سموّ كلامه صلى الله عليه وسلم وجزالة لفظه وقوة عبارته ونصاعة بيانه، فقارنه بكلام غيره من البشر مهما عظمت فصاحته. ولو دخلت ناديا به لوحات من الكلمات الخالدة والعبارات المؤثرة لخطباء العالم وشعراء الدنيا ونوابغ الدهر، ثم نظرت الى كلامه صلى الله عليه وسلم لرأيت كلامه ناسخا لمحاسن كلام غيره، حتى كأنه ما أعجبك قبل كلامه كلام، ولا هزك قبل حديثه حديث، بل إنّك لتجد الرجل العامي الذي ما تمرّس على ضروب الكلام ولا ميّز بين مختلف الكلام، يجد للفظ الرسول صلى الله عليه وسلم وقعا خاصا ومذاقا آخر.

يريد عليه الصلاة والسلام أن يوصي معاذ بن جبل وصية جامعة مانعة شافية كافية، فيأتي بعبارة موجزة مليئة بالفوائد، حافلة بالشوارد، بديعة المنزع، مشرقة الديباجة، فيقول:" اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" أخرجه أحمد [ 20847، 20894] والترمذي 1987 والدارمي 2791 والمشكاة 5083. ولو أن بليغا أراد أن يقول مثلها لأسهب في الوصية وأطال في النصح، فإما أن يجعل المعنى على حساب اللفظ فيبسط القول ويختزل المعنى، أو أن يجعل اللفظ على حساب المعنى فيوجز الحديث ويشير الى المعنى إشارة.

سأله صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر عن النجاة ما هي؟ فلا يتلعثم ولا يتعثر ولا يفكر، إنما ينطلق فمه الشريف بجملة راشدة واعية موحية فيقول:" كفّ عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" أخرجه أحمد 21732 والترمذي 2406 وابن أبي عاصم في الزهد 1\15 وصححه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. فانظر لحسن التقسيم الثلاثي البديع، مع استيفاء المعنى واختصار اللفظ دون تحضير سابق ولا إعداد متقدم؛ لأن السائل واقف يريد الجواب، مستعجل يبتغي النصح.

ويركب صلى الله عليه وسلم راحلته ومعه ابن عباس رضي الله عنهما، فيوصيه صلى الله عليه وسلم بوصية حضرته في الحال، فيخرجها في حلة من البيان تأسر الألباب، ويضعها في طبق من الفصاحة يكاد يذهب ضوؤه بالأبصار، يقول:" يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا ان يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف. واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا". أخرجه أحمد [2664، 2758، 2800] والترمذي 2516، والحاكم 6304 عن ابن عباس رضي الله عنهما وانظر المشكاة 5302. والآن أضعك أمام هذا النص الراقي من البيان، وأحاكمك الى عقلك: هل رأيت في كلام البشر كهذا الكلام؟ حسن فواصل وعذوبة لفظ، وقوة معان، وأسر خطاب! فقوله:" احفظ الله يحفظك" من الجمل المحفورة في ذاكرة البيان، والتي يسجد لها العقل السويّ في محراب الفصاحة، فإنها جمعت الوصايا في وصية، واختصرت العظات في عظة، فلو كان غيره صلى الله عليه وسلم المتحدث لقال: احفظ الله بأداء أوامره يحفظك بنعمه، واحفظ الله بترك نواهيه يحفظك من عقابه، واحفظ الله في شبابك يحفظك في هرمك.. إلى آخر تلك المقابلات، وإلى قائمة طويلة من المقدمات والنتائج والبدايات والخواتم، ولكنه قال:"احفظ الله يحفظك" فلا أبدع ولا أروع ولا أوجز ولا أعجز من هذا الكلام الباهي الزاهي:

كأنه الروض حيّته الصّبا سحرا

وزاره الغيث فازدانت خمائله

ثم اقرأ الحديث جملة جملة، وقف إن كنت ذا ذائقة للبيان وذا دربة على سحر الخطاب:

إذا تغلغل فكر المرء في طرف

من حسنه غرقت فيه خمائله

وخذ أي حديث من أحاديثه العطرة الزكية، هل ترى فيها عوجا من الركاكة، أو أمتا من التكلف؟ بل رقة في فخامة، وسهولاة في إشراق، وأصالة في عمق، فسبحان من أجرى الحديث على لسانه سلسا متدفقا أخاذا.

ويقول صلى الله عليه وسلم:" إنما الأعمال بالنيات" أخرجه البخاري [1 ،54] ومسلم 1907 عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فيكفي ويشفي ويفي المقصود، ويستولي على المعاني ويطوي مسافات من الأحكام والعقائد والآداب والأخلاق في جملتين زاهيتين جامعتين، فتصبح قاعدة للعلماء ومثلا للحكماء وكلمة شاردة للأدباء.

وخذ مثلا كلامه على البديهة والفجاءة: يدخل طفل من الأنصار له طائر يلعب به فمات فيقول:" يا أبا عمير ما فعل النغير؟" أخرجه البخاري [ 6129، 6203] ومسلم 2150 عن أنس بن مالك رضي الله عنه. انظر الى تقابل العبارة وحسن السجعة وموازنة الجملتين، لا وكس ولا شطط.

ويقول في حنين على وجه العجلة:

" أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبدالمطلب"

أخرجه البخاري [2864، 2874]، ومسلم 1776 عن البراء بن عازب رضي الله عنه.

فلو أن علماء الكلام وأساطين البيان أرادوا هذا الكلام على عجلة من أمرهم لما تأتّى لهم.

ولا غرابة ان يكون صلى الله عليه وسلم أفصح الناس فإن معجزته الكبرى وآيته العظمى هو القرآن الذي أدهش الفصحاء وأفحم الشعراء وأذهل العرب العرباء، فلا بد أن يكون هذا النبي الموحى إليه بدرجة سامية من البيان الخلاب الجذاب الذي يستولي على الألباب.