إذا كان المسلمون يرون النبى صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى فى كل جانب من حياتهم فإن كثيرا من النصارى يرون فيه المثل الأعلى كذلك . تشهد بذلك أقوالهم المنظومة والمنثورة.
فعلى سبيل المثال : رأينا عددا من الكتاب والأدباء النصارى يخصصون كتبا ومقالات تتناول محمدا , وتتحدث عن صفاته وأخلاقه وتأثيره فى الحياة الإنسانية عامة , والعربية خاصة .. وتجدر الإشارة إلى أن موقف الأدباء والشعراء النصارى يكاد يكون متوازيا مع كتاب الغرب وشعرائه المنصفين تجاه محمد ودعوته.
ومن بين هؤلاء الأدباء : الأستاذ ( لبيب الرياشى) فى كتابه ( نفسية الرسول العربى ) والأستاذ " خليل اسكندر القبرصى" فى كتابه( دعوة نصارى العرب للإسلام ) والأستاذ " خليل جمعة الطوال" فى كتابه ( تحت راية الإسلام ) والأستاذ " نصرى سلهب" فى كتابه الضخم ( فى خطى محمد ) .
وقدم الدكتور " نظمى لوقا " للمكتبة عددا من الكتب عن محمد والإسلام , تحت عنوان ( الموسوعة الإسلامية الكبرى ) منها : " وامحمداه" , " محمد الرسالة والرسول " و " أنا والإسلام " .
ويلاحظ أن هؤلاء الكتاب الفضلاء لم يدخلوا إلى الإسلام , وإنما ظلوا على نصرانيتهم , وهو ما يعطى أهمية لما يقولونه حول رسولنا صلى الله عليه وسلم , إذ إنه إنصاف جاء ممن لا يؤمنون به , ويعطى فى الوقت نفسه صورة لذلك التأثير الهائل الذى تحدثه شخصية خاتم الأنبياء والمرسلين فى غير المسلمين .
لقد تناول هؤلاء الكتاب شخصيته من منطلق الإنبهار بشخصية نبى أثر فى قومه , فأخرجهم من ظلمات الكفر والجهالة والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية , ووحدهم بعد تفرق تحت راية الإسلام , وصنع منهم أمة ذات كيان وذات حضارة , أثرت فى غيرها من أمم الأرض . وفضلا عن ذلك فإن النظرة التى نظروا من خلالها إلى شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام تعد ذات قيمة علمية فى التناول , تضاف إلى ما كتبه الأدباء المسلمون الذين قدموا لنا سيرة النبى العظيم صلى الله عليه وسلم , وفقا لمنهج علمى وتناول جاد . كذلك فإن هؤلاء الكتاب يعبرون عن نوع من الشجاعة الأدبية والجرأة المحمودة , بدخولهم إلى مجال الكتابة عن محمد والإسلام . لقد عبروا عن حبهم للحق , وتجردهم من التعصب , وسمو سلوكهم , ونبل غايتهم .
يقول الدكتور " نظمى لوقا " فى مقدمة كتابه ( محمد الرسالة والرسول ) : " وليس الإنصاف مزية لصاحبه إلا حينما يغالب الحوائل , كالعقائد الموروثة والتقاليد السائدة .. أما حين يوافقها فما أهون الإنصاف ,( ولولا المشقة ساد الناس كلهم ) كما يقول أبو الطيب , وأوشك أن أقول على غراره : ( لولا العصبية أنصف الناس كلهم) , ويستطرد الكتور لوقا قائلا : " فما أحوجنا فى هذا العالم المضطرب الذى تقسمت فيه الناس معسكرات متقاتلة متلاحية من المذاهب والعقائد , التى صبغت كل منحى من أنحاء الحياة , أن نسعى للقضاء على آفة العصبية , ونتعود الإنصاف .. إنصاف الخصم وكأنه صديق , فالمنصف إنما يعنو للحق , ويعنو لنوره فى العقل , فيشهد لنفسه بالفضل وحسن الرأى حين يؤدى لذى الحق حقه مهما اشتجر الخلاف أو لجّ الخصام ... وما أرى شريعة أدعى للإنصاف , ولا شريعة أنفى للإجحاف والعصبية من شريعة تقول : (( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا )) فأى إنسان بعد هذا يكرّم نفسه وهو يدينها بمبدأ دون هذا المبدأ , أو يأخذها بديدن أقل منه تساميا واستقامة ..؟".
ويتحدث "نظمى لوقا " بعد ذلك عن إنصاف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فيقول : ( وإنى لأسأل من يستكثر الإنصاف على رسول أتى بغير دينه , أما يستكثر على نفسه أن يظلمها إذ يحملها على الجحود والجور ؟ ) ثم يستكثر ذلك التشويه المتعمد الذى يحاوله البعض , ويرى أنه يحتكم إلى العقل , فإنه يرى الخير كل الخير فيما جنح إليه.
ويوضح " نظمى لوقا " أنه بدافع من حب البشرية سطر كتابه عن محمد الرسالة والرسول , ( وسيان بعد هذا أن يقول عنها القائلون : إنها شهادة حق أو رسالة حب , أو تحية توقير وتبجيل , مما كان آحاد الناس فى خلاله ومزاياه , وهو الذى اجتمعت له آراء الرسل , وهمة البطل , فكان حقّا على المنصف أن يكرّم فيه المثل , ويحيّى فيه الرجل ).
وقريبا من هذه المعانى ما ذكره " نصرى سلهب" فى تقديم كتابه ( فى خطى محمد ) للقارئ العربى , فهو يرى أنّ كتابه شهادة " مسيحى " على دين محمد , وإسهام فى تعريف المسيحيين بحقيقة هذا الدين : ( إنما أردته شهادة مسيحى فى دين محمد من لدن الله , من السماء , فأسهم من خلاله , فى إطلاع إخوة لى مسيحيين على حقيقة هذا الدين , ومايحتوى من ثروات روحية وخلقية , وعلى ما أدى للإنسانية عبر العصور من جلى الخدمات ).
ويواصل الكاتب حديثه بعد ذلك ليرد على الافتراءات والمطاعن التى ردّدها الغربيون عن محمد والدين الإسلامى الحنيف .
كذلك من المسيحيين المعتدلين الذين اعترفوا بعظمة سيدنا رسول الله ، شعراء المهجر الجنوبى , ومنهم إلياس قنصل صاحب المطولة العظيمة التى سماها ( النبى العربى الكريم ) وطبعها مستقلة فى 32 صفحة من القطع المتوسط وعدد أبياتها 83 بيتا , افتتحها بمقدمة قال فيها من بين ما قال :
( قرأت لأحد الكتاب مقالة , فإذا هى التحامل الكافر على الأمة العربية , والتلميح الفاجر إلى جمودها لتمسكها بالقرآن الكريم .
وكررت إلى التاريخ أراجع مرة جديدة , سيرة النبى الهاشمى فإذا بى مرة جديدة أمام دنيا من الأخلاق السامية والمواقف الجبارة , خططت للعالمين صراط الحق والهدى والعدالة الاجتماعية الصحيحة التى يبحث عنها الناس , ويسفكون بين الفترة والفترة لتركيزها , دماءهم ! واستعرضت أعمال الذين يدّعون أنهم يريدون أن يقودوا العالم إلى رياض السلام والطمأنينة فلم أجد إلاّ أظافرهم تمزق المقدسات الإنسانية , وإلاّ الكذب والخداع فيما يبدون وفيما يكتمون فخف استغرابى لتحامل الكاتب وتضليله : هو مندوبهم , هو المدافع عن منكراتهم . ورأيتنى أتقدم إلى الرّد عليه بسلسلة من المقالات كشفت نيابه , وفضحت ترهاته , وجعلته من القوم الخاسرين. ثم اندفعت إلى جلاء الشعور الذى ساورنى , وأنا أمعن فى استقصاء البطولات التى ظهرت فى أمتى ـ وفرعها فى السماء ـ فكانت قصيدتى هذه .
أنا لم أطالع فى سيرة الرسول حياة نبى دعا الناس إلى عبادة الواحد القهار فحسب .. وإنما طالعت فيها ـإلى ذلك ـ استعراضا لوقائع العزة والكرامة وصورا عما تستطيع أمتنا أن تأتيه من الأفعال لو عمدت إلى الأخلاق العربية فجعلت منها النور الذى يهديها سواء السبيل .
ثم يصدر إلياس قنصل قصيدته فى مدح النبى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله:
ماذا تهـــــــمّ طوارق الحدثـــــان **** خلق الجهاد لكلّ ذى وجدان
الحقّ شرعك فامض فيه مؤمّـلا **** ما آب غير الكفر بالخذلان
عميت نفوس الناس من أهوائها **** فأعد جمال النور للعميان
لا فــــرق بين ملفّف بضــــــــلاله **** وملفّف بنواصع الأكفان
هذا وهناك قصيدة نظمها شاب مسيحى اسمه ( وصفى قرنفلى ) أعلن فيها عظمة محمد عليه الصلاة والسلام وحبه لمبادئه السامية .. ومطلعها :
قد يقولون : شاعر نصرانى *** يرسل الحب فى كذاب البيان
يتغنى هدى الرسول ويهـــذى *** بانبثاق الهـدى من القـــرآن
ينتحى الجبهة القوية يـحــــدو *** ها رياء , والشعر لا وجدانى
كذبوا والرسول لم يجــر يوما *** بخـلاف الذى أكـــن لســـانــى
ما تراءيت بالهوى بل سقانى *** طائف الحب والهوى ما سقانى
والرائع حقا: أن هذا الشاب المسيحى اعترف بحقيقة طالما حاول غيره من النصارى إخفاءها ، وهى أن فتح المسلمين لمصر كان منقذا للأقباط من ظلم الروم , ومخلصا لهم من العبودية التى كانوا يرزحون تحتها .. وقد سجل ذلك فى قوله :
أفكنّا ـ لولا الرسول ـ سوى العبدان ؟ بئست معيشة العبدان.
ثم يختم قصيدته بما يوضح تسامح الإسلام ، وعدم اضطهاده للمسيحيين ؛ بل إنه يحميهم كما يحمى المسلمين فيقول مخاطبا محمدا صلى الله عليه وسلم :
منقذ الشرق : قــــد أتيناك نشـكو *** ضيعة الحق وانخذال الأمانى
أحــــى فينا ميت العزائم وابعــــث *** نائرات الهدى ودرس المبانى
منقذ الشرق : أنت لم تنقذ المســ *** لــم دون المواطن النصرانى
فجزاء الإحسان أن ينهض الشــر *** ق جميعا بواجب المهرجان
ولا يفوتنا فى هذا المجال أن نذكر ذلك الشاعر المسيحى ( عبد الله يورركى حلاق) الذى أمضى عمره يباهى بالإسلام , ويمتدح الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم مظهرا إعجابه الكبير به , حتى إنه لم يترك مناسبة ثقافية أو لقاءا إعلاميا يجرى معه إلا وتحدث بإسهاب عن الإسلام دينا إنسانيا ساميا هدى البشرية إلى النور والحب والعدل والسلام , وعن القرآن الكريم معجزة إلهية تعنو لبلاغتها الجباه .. وأشعاره فى هذا المجال كثيرة مبثوثة بين صفحات دواوينه المطبوعة والمخطوطة , ومن أشهرها قصيدته النونية التى ألقاها فى مهرجان الشعر الدورى السادس الذى أقيم فى دمشق يوم 23 سبتمبر(أيلول) 1961م ومنها قوله عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:
قبس من الصحراء شعشع نــوره *** فـجلا ظـلام الجـهل عن دنـيانا
ومشى وفى أردانه عبق الـهـــدى *** وأريـج فـضـل عـطر الأكـوانا
بعث الشريعة من غياهب رمسها *** فـرعى الحقوق وفتح الأذهانا
مـــــرحـى لأمــىّ يعـلـم سـفــــــره *** نبغاء يـعـرب حـكـمـة وبـيـانـا
من ذا يجاذبه الفـخـار وقد حمـــى *** أم اللغـات وشـرف الـعربـانا؟!
إنــــــى مسيــحى أجلّ مــحمـــــــدا *** وأراه فـى سـفر العـلا عنوانا
وأطـأطئ الرأس الرفيع لذكر مـــن *** صـاغ الحـديـث وعـلم القـرآنـا
إنـى أبـاهى بالـرسـول ؛ لأنــــــــه *** صقل النفوس وهذب الوجـدانا
ولأنه داس الجـهالة وانتـضـــــــــى *** سيـف الجـهـاد فحـطم الأوثـانـا
يكفى هذا القدر من الشواهد الدالة على اعتراف المسيحيين المعتدلين بعظمة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم . وهى أبلغ رد على أولئك الرسامين الذين تطاولوا على النيل من مقامه الرفيع .
المفضلات