القرينة الأولى :
كل عاقل مفكر ، يفترض أن يعلن صاحب أي دعوة أو رسالة ، من أول أيام دعوته عن أطر رسالته وأهدافها ومقاصدها ، فهذا هو ما يجرى حقاً على صعيد الواقع من حولنا، وأن يكون في إعلانه صريحاً و واضحاً أيضا، خصوصا إذا كان هذا الداعية نبياً ورسولاً من رب الكائنات.
فإن صح ما زعمه أصحاب الأناجيل من أن المسيح أتى إلى هذا العالم ليموت فداء خطية آدم وحواء ومن ثم يقوم من بين الأموات ، فقد كان متوجباً عليه أن يعلن ذلك للناس ولتلاميذه بالذات من أول أيام دعوته ، فلو فعل ذلك لتوجب أن ينتظر جميع هؤلاء التلاميذ تحقق هذه المعجزة وبفارغ صبرهم أيضا.
وقد دققت ما نقلته لنا الأناجيل من أخبار ، فلم ألحظ معالم لهذه الظاهرة الطبيعية ، على صعيد الأقوال ، فتناولت قضية أخبار وضع جثة المسيح في قبره الذي وضعه يوسف الرامي فيه لعلي ألحظ تجمع تلاميذ المسيح حول القبر ساعة وضع الجثة فيه ، فلم ألحظ إلا تواجد امرأتين هناك، فإنجيل متى روى : (( وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الأخرى جالستين تجاه القبر )) [ متى 27 : 61 ] ، فأين بقية تلاميذ المسيح الناصري ؟!
وقلت في نفسي لعلهم اتفقوا فيما بينهم أن يأتوا إلى قبره صباح يوم الأحد يستطلعون قيامته ، فدققت في الأناجيل الأربعة ، وأدهشني أن غير هاتين المرأتين لم تسارعا إلى القبر فجر يوم الأحد ، ثم إنهن ما سارعتا للقاء المسيح بعد قيامته ، بل على حسب ما روى مرقس سارعتا لتدهنان جسد الميت بالطيب ، فقد ورد : (( وبعدها مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطا ليأتين ويدهنه ، وباكراً جداً في أول الأسبوع – أي فجر يوم الأحد – أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس، وكن يقلن فيما بينهن : من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر ؟ فتطلعن ورأين أن الحجر قد دحرج لأنه كان عظيماً جداً )) [ مرقس 16 : 1 ]
فالنسوة ، ومريم المجدلية من بينهن ، أسرعن إلى القبر صباح الأحد ، ليس لينظرن إلى قيامة المسيح الناصري من بين الأموات، بل ( ليأتين ويدهنه ) من هذا ندرك كباحثين مدققين، أن تلاميذ المسيح ما كانوا ينتظرون موته وقيامته ليصبح كفارة عن ذنوبهم.
وهذه القرينة يثبت منها عكس ما زعمه رواة الأناجيل واجمعوا عليه من أن المسيح الناصري مات على الصليب، وقام من بين الأموات، ليصبح كفارة عن خطيئة آدم وحواء.
قد يرد على هذه القرينة قائل يقول : لقد كان سبق للمسيح الناصري أن اتفق مع تلاميذه أن يجتمع بهم بعد قيامته من الأموات على جبل الجليل ، ويستدل بقول متى : (( هاهو يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه )) وقول مرقس :(( إنه يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه كما قال لكم )) ولذلك كانوا ينتظرون لقاءه على جبل الجليل وليس فجر يوم الأحد على القبر.
أقول : هذه مزاعم لا يصدقها واقع ما جرى ، فإن نحن عدنا إلى إنجيل متى نلاحظه قد قال :(( وأما الأحد عشر تلميذا فانطلقوا إلى الجليل ، إلى الجبل حيث أمرهم يسوع ، ولما رأوه ، سجدوا له ، ولكن بعضهم شكوا ، فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً : دفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض ، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس )) [ متى 28 : 16 ] هذا ما رواه متى .
لكننا إذا رجعنا إلى إنجيل مرقس نلاحظه قد قال :(( أخيراً ظهر للأحد عشر وهم متكئون ، ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام ، وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها ، من آمن واعتمد خلص ، ومن لم يؤمن يدن ، وهذه الآيات تتبع المؤمنين : يخرجون الشياطين باسمي ، ويتكلمون بألسنة جديدة ، ويمسكون بأيديهم الحيات ، وإن شربوا شيئا مميتاً لا يضرهم ، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون )) [ مرقس 16 : 14 ] فهذا الكلام يتضارب مع ما أورده إنجيل متى في نواحي كثيرة يدركها كل قارئ للنصين ، ولا يثبت منها أن تلاميذ المسيح كانوا ينتظرونه من أنفسهم على جبل الجليل ، بل على حسب ما روى متى :(( ولكن بعضهم شكوا )) وعلى حسب ما رواه مرقس :(( ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام )) .
وإن نحن رجعنا إلى إنجيل لوقا، فلا نجد أثراً للقاء المسيح الناصري بتلاميذه على جبل الجليل ، بل في أورشليم ، فقد ورد :(( فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم ، وهم يقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان ، وأما هما ، فكانا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز، وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم ، وقال لهم : سلام لكم فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً ، فقال لهم : ما بالكم مضطربين ، ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم ؟ انظروا يدي ورجلي إني أنا هو ، جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي ، وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه )) [ لوقا 24 : 33 ] .
وأما إنجيل يوحنا فلم يتطرق إلى جميع ما أوردته الأناجيل الأخرى، بل روى أموراً لا تمت إلى اجتماع المسيح بتلاميذه في الجليل ولا شيئاً من ذلك. بل روى اجتماعات في طبرية وسواها مما لا حاجة بنا إلى إيراده في هذا المقام.
وأنا أرجو من القارئ أن يتدبر جميع هذه النصوص التي نقلتها له، وينظر، هل يثبت ولو من واحدة منها ما يشكل قرينة تؤكد إيمان تلاميذ المسيح بقيامته من الأموات وانتظارهم لها ؟
يتبـــــــــــــــــــــــــــــع
المفضلات