بسم الله الرحمن الرحيم

دروس من الفقه النبوي

والذي يتعمق في دراسة الجانب التطبيقي للإسلام ، من خلال السيرة النبوية الشريفة ، يرى كيف وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مواجهة مشكلات المجتمع الجاهلي ، وكيف كان يتعامل مع النفوس البشرية المتباينة : فكراً ، ومزاجاً ومكانة . وكيف كان يتدرج بها من مرحلة إلى مرحلة ، بصبر وأناة ، وحكمة ، حتى نقلها من الجاهلية إلى الإسلام.

لقد كان من أبرز خصائص ، وسمـات المنهج النبوي: (التغيير المتدرج حسب الأولويات) كما أفصحت عن ذلك السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وهي تصف منهجية التغيير الإسلامي ، التي كانت وراء نجاح الدعوة الإسلامية : (إنما نزل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المفصل ، فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام ، نزل الحلال والحرام ، ولو كان أول شيء لا تشربوا الخمر ، لقالوا لا ندع الخمر أبداً ، ولو نزل لا تزنوا ، لقالوا لا ندع الزنا أبداً ) (رواه البخاري).

والمسلم اليوم عندما يتأمل عمل النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والحركة ، يجد أن من بين أهم المفاتيح التي فتح بها مغاليق النفس البشرية ، وغير بهـا أوضاع الحياة الاجتمـاعية : (قدرته الفائقة على فهم النفوس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية وإدراك المؤثرات النفسية ، والبيئية التي يخضع لها الناس ، والتعامل معها على ضوء ذلك الفهم الشمولي العميق) الذي كان خير معين له على طرح الحلول الجذرية ، للمشكلات الإنسانية ، النفسية ، والاجتماعية ، الفردية ، والجماعية.

ولقد أعانه على امتلاك تلك القدرة في فهم النفوس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية ، وإدراك المؤثرات النفسية ، والبيئية أمران أساسيان هما:

- الوحي الأعلى.

- والاستعداد الذاتي.


فالوحي الأعلى كان يطلعه به الله سبحانه وتعالى سواء عن طريق جبريل عليه الصلاة والسلام مباشرة ، أو عن طريق الإلهام في بعض الأحيان عندما تقصر وسائله الخاصة ، في التحري ، والتدقيق ، ويبدو أن أمراً مهماً سيفوته ، أو خطراً كبيراً سيلحقه ، كما في تآمر بني النضير على قتله .. وكما في قصة حاطب بن أبي بلتعه .. وكما في قصة فضاله الذي جاء يريد قلته ، وغيرها من الوقائع التي يعلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي ، فيأخذ حذره منها ، ويحتاط لها.

والاستعداد الذاتي: حيث كان عليه الصلاة والسلام يهتم بمعرفة كل صغيرة وكبيرة في المجتمع ، الذي يكون فيه ، ويكلف أصحابه بإبلاغه ما يصلهم من معلومات وأخبار عن أحوال الناس ، وأوضاع المجتمع.

قال القاضي عياض فيما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: (.. فيتشاغل بهم - أي الناس - ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة ، ومن مسألته ، عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : (ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته .. يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه ، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس) .

(ويرسل رجاله المقتدرين إلى الجهات التي يريد معرفة حالها ، فيأتونه بالأخبار التي يستعين بها على رسم خططه ، وانفاذ أمره). ومواجهة أعباء ومسؤوليات الدعوة ، والحدب عليها ، حتى لا يلحقها الأذى.

فخبرته صلى الله عليه وسلم بالنفوس والأوضاع البشرية ، وحرصه على متابعة مجريات الأحداث ، والإشراف عليها ولو من بعيد ، ساعده كثيراً في ضمان قدر هائل من الفاعلية في حركته ، لأنها كانت (تتم في الوقت المناسب ، وبالكيفية المناسبة) . فلم يكن تستفزه الأحداث ، وتضطره إلى المغامرة - رغم كثرتها وإلحاحها - بل كان يتحرك بخطى مدروسة ، يستلهم فيها واقع الأفراد والمجتمع والدعوة ، وكما تجمعت لديه معطياته عن طريق الوحي الأعلى ، والتحرك الذاتي .