الافتراء

د. عمر عبدالكافي
آفات اللسان
الافتراء في المصطلح اللغوي: من الفري وهو القطع، فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "رأيت الناس مجتمعين في صعيد فقام أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين، وفي بعض نزعه ضعف، والله يغفر له ثم أخذها عمر فاستحالت بيده غرباً فلم أر عبقرياً في الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن "(1) (يعني كثر الماء والعشب). وأولها العلماء على أن الدلوين هم سنتي خلافة أبي بكر و عمر طالت مدته أكثر من عشر سنوات أميراً للمؤمنين استفاد الإسلام فيها كثيراً.فالعجيب أن كلمة الافتراء جاءت من الفري وهو القطع، والقطع للإفساد وليس القطع للإصلاح، قد يقطع الإنسان شيئاً قد يكون للإصلاح أما هذا القطع يكون للإفساد، وقد تحدثنا سابقاً عن الكذب و آثرت أن أتكلم عن الافتراء لأن الافتراء يدخل ضمنا في الكذب ومعناه.......

ألم نقرأ قول الله عز وجل:
(َ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )(النساء: من الآية50).
(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء: من الآية48).
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لايعقلون)(المائدة: من الآية103).
(إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)(النحل:105).
(وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)(النحل:116).
يعني القضية أن الإنسان وهو يقرأ هذا الكلام يشعر برهبة في مسألة الذين يفترون على الله والعياذ بالله رب العالمين. وقال بنو إسرائيل لمريم: (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً)(مريم: من الآية27) ، والله سبحانه وتعالى يقول عن صدق كلامه عز وجل وقصص الغابرين من الأمم:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى)(يوسف: من الآية111). وقد سأل عمر علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، قال له: يا أبا الحسن ما تقول في شارب الخمر؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن شارب الخمر إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي كان حرياً أن يفتري، قال: وما حد الفرية؟ قال: ثمانون جلدة ". فإذاً أخذ حكم الافتراء، الذي يعاقر الخمر يهذي، يقول كلاماً سبحان الله ثم بعد ذلك يدخل في الافتراء على عباد الله ويرتكب هذه الكبيرة، نسأل الله أن يتوب على الجميع.وعن مسروق قال: قلت لعائشة، رضي الله عنها: يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب، من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير"، و "ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب"، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا"، ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" الآية ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين(3).
يجب على الإنسان في قضية الافتراء أن يراعي أموراً عدة:
*** أن يملك كلماته فلا يكون خواضاًُ في أعراض الناس ولا يفتري على الناس الكذب، لأن بعض الناس مثلاً يذهب إلى رئيسه في العمل، فيفتري على زميل له كلاماً لم يحدث يقول له إن فلان هذا لا يعمل عملاً جيداً أو يقصر في هذا، أو يتكلم عنك ويقول كذا وكذا، هذا من باب الافتراء.
*** أن هذه الآفة الخطيرة، وهي الافتراء على عباد الله، تحوي في داخلها كذباً وشهادة زور، وتحوي إيقاع الفتنة بين المسلمين وبين الناس، وتحوي أيضاً مجانبة والبعد عن قول الحق ثم تحوي إيغار قلب المؤمن نحو أخيه. ولذلك كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تحدثوني عن أصحابي فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"(3).
*** أن المسلم عندما يجد إنساناً يفتري في الكلام فيدخل هذا أيضاً تحت عنوان النمام الذي ينقل كلام الغير للإيقاع بهم. فكل هذه مصائب كبيرة.
يفتري الإنسان أحياناً على زوجته أمام أهلها أو أمام أهله ويقول أنها مقصرة في كذا وكذا وهي تكون غير مقصرة، أو هي تفتري عليه وتقول رجل بخيل ورجل كذا وكذا، مع أنه رجل كريم وينفق ويعطي من فضل الله ومبسوطة يده بالخير لأهله ولزوجته، وكريم في بيته وكريم في تعامله. لكن الكارثة الكبرى أن كثيراً من الناس ليس قليل الشكر فحسب، إنما يتعدى الواحد منهم بقضية الافتراء على خلق الله، الافتراء على عباد الله، والمصيبة الكبيرة أن يفتري الإنسان على الله عز وجل يؤول نصاً دون علم وعلى هواه، ويفسر أموراً على هواه ويفتي على هواه، هذه كلها من الافتراء. كما فعل هؤلاء العرب قبل الإسلام، جعلوا هذه بحيرة وهذه سائبة و هذه وصيلة وهذا حام ، ولذا قال الله عز وجل: (وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) (المائدة: من الآية103).
وبعض الناس يحل ويحرم على هواه، هذا أيضاً من ضمن الافتراء، كثيراً ما تجد هذا في الأسر ، فهذه بنت تبلغ مبلغ النساء مثلاً في الثانية عشر أو الثالثة عشر ويأتيها ما يأتي النساء من أمر الله سبحانه وتعالى، فتجد الأب و الأم قد قاما بفضل الله عز وجل بأن أقنعا الابنة هذه والبنت الصالحة تلك التي تربت في هذه الأسرة الطيبة بأمر الحجاب، فيجتمع أهل الزوج وأهل الزوجة والأقارب والجيران ويقولون للأب يا رجل هذا حرام هذه البنت مازالت صغيرة ويقولون للأم يا فلانة هذا حرام البنت مازالت صغيرة، سبحان الله! وكأن الحلال صار عند الله حراماً، وكأن أمر الله سبحانه وتعالى صار عند الناس ممنوعاً، فللأسف الشديد هذا من ضمن الافتراء على رب العباد والعياذ بالله رب العالمين، لا بل على العكس نحن يجب ألا نقول كلمة حرام إلا في مكانها، لا حرام إلا ما حرمه الله عز وجل، كل الأمور على الحل والإباحة ما لم يأت نص يحرم، طالما أن ليس هناك عندنا نص يحرم فما علينا إلا أن نتقي الله رب العالمين ولا نقول لما تصف ألسنتنا، يعني كما قال رب العباد سبحانه: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116)هذا كلام ربنا فلا يجب أن نحل وأن نحرم أو أن نقول هذا حلال وهذا حرام إلا بنص شرعي أو أن نعود إلى أهل الفتيا، فيجب ألا يفتي الإنسان إلا بعلم ويقول هذا ما سمعته من العالم الفلاني أو الفقيه الفلاني أو نعود للفقيه الفلاني لنستفتيه أما أن يفتي كل إنسان من عنده!.وهذا مالك، رضي الله عنه، يأتيه رجل من أهل مصر ليستفتيه في أسئلة حملها المصريون له في اثنين وأربعين سؤالاً، وأجاب مالك عن ستة أسئلة فقط، وقال في ست وثلاثين مسألة: الله أعلم، قال الرجل: أنت إمام دار الهجرة ولا تجيب إلا على ست مسائل فقط؟! قال مالك، رضي الله عنه: أقول الله أعلم وأدخل الجنة، خير من أن أفتي بغير علم وأدخل النار(4).
فالإنسان المسلم يجب أن لا يتطوع بالفتيا، ولا يفتري على الله الكذب ولا يفتري على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يفتري على الناس، لأن الافتراء هذا أمر خطير يهدم المجتمعات ويضيع قواعد الدين بين الناس.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبعدنا عن هذه الآفة وأن يتوب على من أبتلي بها إن ربي على ما يشاء قدير.
1)- أخرجه البخاري في"صحيحه" (3/1329) رقم (3434)، ومسلم في"صحيحه" (4/1860) رقم (2392). ويفري فريه، أي: يقطع كقطعه.
2)- أخرجه البخاري في"صحيحه"(4/1840) رقم (4574)، ومسلم في"صحيحه" (1/159) رقم (177).
3)- صحيح في ثبوته بحث يطول، فقد أخرجه أحمد في"المسند" (1/359)، وأبو داود في"السنن" (4/265) رقم (4860)، والترمذي في"السنن" (5/710) رقم (3896)، وانظر :"تفسير ابن كثير" (2/105).
4)- انظر"الانتقاء"( صـــــ 74 ).