د. المتوكل طه
ما كدنا ننتهي من الرسومات المسيئة للرسول الأعظم، والتي ذكرتنا بالناسك بطرس الذي حمل رسما يظهر فيه التركي الفظ وهو يضرب المسيح، وراح يلوب في المدن والقري يثير الناس ويحرضهم لتخليص قبر المسيح من الأتراك الملاحدة أو من المحمديين الوثنيين ... حتي طالعنا بنيديكت XVI بتصريحاته الممضة، ولتخرج علينا صحيفة لو فيغارو الفرنسية وهي تصب علي النار زيتا.
وها نحن نري سباق المثقفين الغربيين من كتاب ومخرجين وسياسيين ومفكرين وفنانين في توجيه الاهانات العميقة للاسلام، وسبق ذلك في بداية القرن العشرين بحثٌ محموم لتقديم الاسلام بطريقة مشوهة تدعو الي الرثاء، وجرت قراءة الاسلام وتفسيره بمناهج البحث الغربية وبالمنطلقات القيمية والمعرفية الغربية، فأصبح الاسلام ظاهرة ضد المدنية والتقدم باعتباره دينا مسلحا يخلو من الطرب والخمر وحرية النساء وحرية الغلمان، وليس من الغرابه ان دعت العلمانية الي مذهب الغلمانية وسنت القوانين وسيرت المظاهرات تاييدا لهذا المذهب الذي اصاب قوم لوط فخسفهم ربهم اعمدة من الملح المر.
والمشكلة هنا انهم يهاجمون اسلامنا وينهبون ثرواتنا ويحتلون أرضنا ويغيرون مناهجنا ويعلموننا الديمقراطية وحقوق الانسان وحرية المرأة وحرية اللواط ايضا.
ومنذ العام 1830 وحتي هذه اللحظة ونحن لم نتعلم شيئاً سوي الفوضي والتفكك ومزيد من التشظي والتخلف دون ان نتخلي عن الاسلام، اذن، هناك مشكلة حقيقية، وبدلا من ميلاد انظمة ومجتمعات تتعلم من الغرب وتسير علي هديه ومنهجه، فقد زرع الغرب في بلادنا اسرائيل لتكون لنا نموذجا يحتذي في احترام حقوق الانسان وحقوق الغلمان ايضا، وبدلا من ان تسير خطط التنميه والتقدم والتحرر في بلادنا، فقد ضرب الغرب بيديه او باياد اسرائيلية كل علامات التقدم والتنمية، وهكذا فان بلادنا التي تسبح علي بحار النفط والذهب والفوسفات تحولت - بقدرة قادر - الي أفقر بقاع الأرض وتحولت مجتمعاتها التي تربط بينها روابط اللغة والتاريخ والهدف الي اكثر المجتمعات فرقة واختلافا.
وبعد كل هذا الظلم والاحتلال والاستغلال والاهمال والقتل والهدم والتفكيك والتهميش والتحقير، يأتي مثقف ما او مفكر ما او سياسي ما ليعلمنا الاسلام الصحيح واللغة الصحيحة والديمقراطية التي لا مثيل لها! فنغمة المستشرقين الأوائل الذين كتبوا تقاريرهم للمخابرات ومن ثم حولوها الي كتب علمية تناقلها مثقفنا العربي وجعل منها هاديه ونبراسه، تتكرر اليوم بالطريقة ذاتها، ولكن باختلاف ان من يُصدر النغمة هم السياسيون والقادة الاقل ثقافة او قُل الأكثر غباءً في العالم.
وحتي نضع الامور في نصابها الصحيح، وحتي لا نضيع في متاهات وردود أفعال انفعالية ونتحول الي مدافعين عما الصق بنا وبديننا من اتهامات، فان من دواعي الحق والحقيقة القول ان كل هذا يَصُب في خانة واحدة، عنوانها الكبير والصغير، السيطرة علي منطقتنا العربية والاسلامية خدمةً لهدفين اثنين لا ثالث لهما:
نهب ثرواتنا من جهة وحماية اسرائيل من جهة أخري ولا شيء آخر.
ونذهب الي التاريخ قليلا ففي يوم 18 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1095 ـ أي قبل ألف سنة تقريبا ـ وقف البابا اوربان في مدينة كليرمونت بفرنسا وقال امام ثلاثمائة وعشرة من الأساقفة والقساوسة ما ننقله بالنص هنا يا خزينا، يا عارنا، اذا ما انتصر جنس يتسم بهذه الحقارة والانحطاط وتستعبده الشياطين والعفاريت، علي شعب انعم الله القدير عليه بالايمان وتباهي باسم المسيح .
في هذا الخطاب الذي شكل الأساس لما عرف في حينه بالحروب الصليبية، وصف البابا المذكور المسلمين بهذه الأوصاف الجنس الخسيس، الكفار، البرابرة، الأتراك وهذا الكلام لا نتقوّل به علي احد، بل هو وارد في كتاب لقسيس يدعي فوشية الشارتري بعنوان تاريخ الحملة الي القدس ، وكان هذا المؤلف القسيس اول قسيس صليبي في اول امارة صليبية اقيمت في بلادنا.
وبعد ألف سنة نسمع من جديد ان الاسلام فاشي، وان الحضارة الغربية افضل من الحضارات الاسلامية وان الاسلام متوحش وان هناك اسلامين: واحد ليبرالي مسالم وطيّع وناعم ومقبول، وآخر ارهابي ومتعصب ومتزمت، وان المسلمين نوعان: معتدل ومتشدد، وان الأنظمة والشعوب العربية والاسلامية مختلفة ومتنوعة باختلاف قربها وبعدها عن مكدونالد وكوكاكولا وبريتني سبيرز، ولا احد يتحدث عن النفط او عن اسرائيل.
الغرب استعلائي واقصائي تماما، اوربان هذا الذي شتم الاتراك الذين هم شعب فارسي ، كما قال، لم يكن يعرف شيئا عن العلماء والفلاسفة والشعراء والكتّاب العرب والمسلمين، ولم يكن يعرف شيئا عن عظمة القاهرة وبغداد وحلب والقدس، حتي معلومات الغرب عن الطب لم تكن تزيد عن معرفة حلاّق في بلدة ريفية نائية، ومن يقرأ ما كتبه اسامة بن منقذ عن علوم الفرنجة الطبية سيضحك طويلا، ورغم ذلك يقف اوربان بكل ثقة ليقول ان المسلمين هم جنس يتسم بالحقارة والانحطاط، هل لهذا علاقة بما صرح به جون بولتون قبل شهر تقريبا ان هناك فرقا بين دم ودم وقيمٍ وقيم... خلال تبريره للعدوان الاسرائيلي علي لبنان.
تقوم حكاية الغرب علي انهم جنس ارفع، بالعرق والدين والمعرفة، وتقوم حكايتهم علي ان التاريخ هو تاريخهم وان الكون يدور حولهم، وانهم صانعو الاتجاهات والمعايير والمصطلحات وانهم الاقدر علي بناء افضل السياقات الروحية والارضية معا.
الحضارة التي اقاموها اعتبروها نهاية ما يمكن الوصول اليه بشريا، وهم ينكرون علي الآخرين مساهمتهم في صياغة او بناء هذه الحضارة، وهم ـ لجهلهم أو غرورهم أو وهمهم ـ ويعتقدون أن هذه الحضارة وصلت الي غايتها المجتمعية ـ بالحرية الفردية ـ وغايتها السياسية ـ بالديمقراطية السياسية ـ وبهذا لم يبقَ سوي تحقيق النبوءات الكبري، وهكذا تصاب هذه الحضارة بكل ما تصاب به الحضارات القوية، البحث عن الاوهام من اجل تطبيقها او الانفجار من داخلها بحثا عن اوهامها.
وفي خضم هذا كله يخرج علينا البابا الالماني الجديد باسمه البروتوكولي بنيديكت او بنيديكتوس او كلاهما، ويفاجئنا الرجل بأنه فَكِه وطروب وصاحب ابتسامة تقطر ايماناً وتفهّما وتقوي وقداسة، ويفاجئنا ايضا انه لم يتقدم قيد أنملة عما قاله اوربان قبل الف عام، رغم الانفجار المعرفي وتوالد محطات التلفزة الفضائية وانتقال العالم من غابة الي مجرد قرية صغيرة تشرب الكوكا كولا وترقص علي انغام الروك والبلوز والفانك ... يخرج علينا هذا الرجل في الوقت الذي لم يعد في الغرب ما يبهر سوي قوته، ليس الاّ، فحكايته حول تعريف العالم وتفسيره لم تعد مقنعة، حتي هو لم يعد يُصدقها.
بابا روما الجديد اذن، لم ينتبه ولم يتعلم ولم يقرأ ما حدث طيلة الف سنة وأعاد القصة الي أولها، أي ان البابا الجديد يقدم الغطاء الديني اللازم من أجل السيطرة علي منطقتنا بالحديد والنار، فما دُمنا نتبع نبياً لم يأت الاّ بالسيئ والشرير، فلماذا لا نُصفي ونذبح وتؤخذ منا أراضينا وثرواتنا، ولماذا لا تتمتع اسرائيل بخيرات هذه المنطقة، ولماذا لا نُغزي في عقر ديارنا، ونُحرم حتي من شم الأزهار، ومن يقطع احد الحواجز العسكرية الاحتلالية في الاراضي الفلسطينية سيعرِف وسيلمس معني تصريح بابا روما هذا؟! اذ لأنك عربي ولأنك مسلم تموت زوجتك علي حاجز زعترة ، ان موت هذه الحامل علي ذلك الحاجز وتحت عدسات الكاميرا لتشكل فضيحة أخلاقية لكل الحضارة التي ينتمي اليها البابا.
يجب عليّ ـ علي الاقل ـ ان اعتبر ان تصريحات البابا ـ التي يدّعي أن المسلمين أساءوا فهمها وأخرجوها من سياقها ـ لا تخدم الحوار ولا التفاهم ولا أي أمر انساني ـ بقدر خدمتها الاستعمارية والتوسعية واستعمال القوة بأقصي حالتها وتوحشها بحق المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير والشيشان والفلبين وسريلانكا والبوسنة.
لقد صور البابا الجديد المسلمين ودينهم علي انهم غير عقلانيين يتبعون دينا يستعبدهم فيه الشياطين والعفاريت كما قال اوربان قبل الف سنة تقريباً، كما انهم يدينون لنبي لم يأتِ سوي بالسيئ والشرير، وان المسلمين لا يستطيعون نقاش ربهم باعتبار ان ارادة الله فوق عقلهم لأنهم يمتنعون عن نقاشها او رفضها. ولم نقع هنا في ردة الفعل بحيث نشرح للسيد المبجل والمقدس ديننا، او موقع العقل في هذا الدين وما هو دور سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم في تقدم الكون كله، ولا عن معني الاسلام وعلاقته بالآخرين، يكفي هنا ان نقول ان ايماننا لا يكتمل الاّ بالايمان بسيدنا المسيح وبقداسة أمه مريم عليهما السلام.
ما أريد أن أقوله هنا هو تذكير البابا الجديد بما تمت خيانته من المسيحية الحقيقية، وما تم من عمليات انسانية في تفسير ارادة الله وعقلنتها الي درجة أخرجت الأمر كله الي ساحة السخرية والعبث، وما تم من تجسير المسافة بين الله والانسان الي درجة أن تحول بعض الأشخاص ومنهم البابوات الي تنازع السلطة مع الله والمسيح نفسه.
ان نقاش ارادة الله بدعوي حرية العقل البشري أدي فيما أدي اليه الي التباس شديد ومربك ومحرج في طبيعة السيد المسيح ودوره ورسالته، ولان من المستحيل عقلنة أي دين ذلك ان في كل دين ـ مهما قل عدد أتباعه ـ مناطق لا يمكن للعقل ان يسأل او ان يتلقي اجابات، لهذا فان المسيحية الغربية بالذات قدمت اجابات علي كل شيء ـ بدعوي العقل جعلت من كثير من مثقفيهم وفلاسفتهم وشعرائهم وكتابهم يقولون عن ذلك ما لا يمكنني نقله احتراما لمشاعر من نعيش معهم من أخوة لنا نحترمهم ونقدرهم ولا نفكر مطلقا بالاساءة اليهم.
ان كلام البابا الجديد عن ارادة الله وعقلنتها مضحك تماما، فهو يعرف ان الأديان لا تناقش، ولو قرأ شيئا عن الهندوسية او المهاريشية أو المورمونية او حتي اليهودية التي يفخر بالقاسم المشترك معها لأدرك ان العقل يقف حائرا من ارادة الله، ولكنه لم يلاحظ ذلك سوي في الاسلام، لأن أهله هم الذين يملكون النفط ويهددون اسرائيل.
البابا الجديد الذي درس اللاهوت في جامعات المانيا لمدة طويلة أثبت انه لا يقرأ التاريخ اطلاقا، فضلا عن جهله بالاسلام أصلا، فلو قرأ التاريخ لعرف ما معني السيئ والشرير، فاذا قسنا السوء والشر بمعني الاعتداء علي البشرية وذبحها وسرقة ثرواتها وأراضيها وانتهاك العالم وتخريبه وتلويثه، فمن الأجدر هنا الاشارة الي حروب الأمم المسيحية في ما بينها ومن ثم حروب هذه الأمم ضد غيرها من أمم افريقيا واسيا وأمريكيا الشمالية والجنوبية لنعرف فظائع ما ارتكب بحق تلك الشعوب ـ النكته الحقيقية هنا ان قتل الناس وسرقتهم وتحويلهم الي بهائم او جثث تم باسم الدين المسيحي، والدين فقط.
ان البشرية جمعاء، ومنذ اول حرب وقعت بالتاريخ وحتي سنة 1914 لم يقتل من الناس بقدر القتلي الذين راحوا ضحية الحربين الأولي والثانية، وهي حروب بين أمم مسيحية تسابقت علي النفوذ والتسلح والتميز والأوهام.
ان المسيحية الغربية هي التي أنتجت أفكار التميز والوهم مثل الفاشية والنازية واللاسامية، وهي التي اخترعت حروب الاستباق والوقاية وهي التي خلقت الاستعمار القديم والجديد وهي التي احتقرت البشر وهي التي احتقرت البيئة واستغلت العالم حتي آخر قطرة فيه.
لا يمكنني فهم تصريحات البابا بعيداً عن الجو العدائي والاستعلائي والاستعماري، لأنه في الوقت الذي أقدس فيه السيد المسيح ولا اذكره الا بالصلاة والسلام عليه، وفي الوقت الذي لا استطيع فيه الحركة بين مدينتين في فلسطين، وفي الوقت الذي يقتل فيه من أمتي يوميا العشرات او المئات، اسمع شخصا يمثل ارفع منصب ديني في العالم المسيحي يتهم نبي الرحمة، الذي علّم الناس حُب الناس وحب العالم وحب الله، انه لم يأت الا بالسيئ والشرير!
واضح ان هناك خللاً ما، خلل كبير يجب اصلاحه. واذا كان اوربان ـ قبل الف سنة ـ أشعل حربا بحجة أنها ارادة الله لمدة ثلاثمئة سنة، فان البابا الجديد لم يشعل الحرب ولكنه يزيد أوارها المستعر، ليسرّع النهاية بالتأكيد.
ہ شاعر وكاتب من فلسطين