(( الحرية الدينية ))
رأس الحربة الجديدة


د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل


لم يكد العالم الإسلامي يفيق من إحدى صدمات صِدَام الثقافات، وأكثرها استفزازاً واستغضاباً، وهي قضية الرسوم الفاجرة التي تطاول بها الدانماركيون، ومعهم معظم الأوروبيين والغربيين على شخص رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- حتى تفجرت قضية أخرى لا تقل خطورة في مدلولاتها، وإن كانت أقل في تفاعلاتها، وهي قضية الهجوم على شريعة الإسلام تصريحاً أو تلميحاً من معظم دول الغرب باسم «الحرية الدينية»، بمناسبة تفاعل قضية الرجل الأفغاني الذي ارتد عن الإسلام، ودخل في النصرانية.

لقد كان من الممكن أن تمر قضية هذا المرتد عن الدين، كقضايا العديد ممن يرتدون بأشكال وأنواع من الردة كل يوم دون أن يأبه بهم أحد، ولكن تلك القضية أخذت أبعاداً أخرى عقائدية وحضارية وقانونية وسياسية؛ لا ينبغي أن تمر مرور الكرام. وملخص قضــية ذلــك المرتــد ويدعى: (عبد الرحمن عبد المنان) هو أنه كان يعمل مع إحدى المؤسسات الإغاثية التنصيرية في مدينة بيشاور بباكستان عام 1990م، أي في ذروة الجهاد الأفغاني ضد الروس، فتنصر راغباً عن التوحيد إلى التثليث، ثم سافر بعد ذلك بثلاث سنوات إلى ألمانيا، محاولاً الحصول على لجوء سياسي لينجو من ملاحقة المجاهدين، لكنه لم يفلح في الحصول على هذا اللجوء، ولم يفلح أيضاً في الحصول عليه من بلجيكا، وبعد عشر سنوات من الإقامة كافراً بين الكفار، عاد إلى أفغانستان عام 2003، بعد سقوط حكومة طالبان، وبدأ يُعلن ردته، فطلبت زوجته الفراق منه، واحتدم الخلاف بينهما حينما طالب المرتد بضم بناته إليه ليكُنَّ معه في دينه ودنياه الجديدة، وظل الخلاف بينهما مدة ثلاث سنوات، ثم رفعت الزوجة أمرها للقضاء الأفغاني، الذي لا يزال بعض قضاته متوهمين أنه يمكن لهم الرجوع لأحكام الشريعة في القضاء والحكم في ظل الاحتلال.

حتى تلك المرحلة؛ كان الأمر يبدو وكأنه مجرد مقاضاة في قضية أشبه بالأحوال الشخصية بين زوجين، إلا أن الدول الغربية أعطتها بُعداً آخر، بعدما قرر القاضي الأفغاني محاكمة المرتد على شأن الردة الذي هو أخطر من المظلمة الزوجية، لكن الرجل أصر على أنه التحق بالنصرانية مختاراً، ولن يتحول عنها... ومن حينها؛ خرجت القضية إلى العالم، على أنها اعتداء على «الحرية الدينية» وشاء بوش وحلفاؤه أن يجعلوا منها سلاحاً حديثاً في الحرب العالمية على الإسلام.
تحت هذا العنوان «الحرية الدينية» التي تعد الوجه الاعتقادي في الليبرالية الغربية؛ بدأت الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب في خوض حملة مكثفة للإفراج عن المرتد، قبل أن تبدأ محاكمته أو حتى استتابته!

وبدأ الرجل يظهر في وسائل الإعلام الغربية وبيده نسخة خاصة من الإنجيل، مكتوبه بلغة محلية لأغراض التنصير، وبدأت في موازاة ذلك حملة عالمية لنصرة ذلك المرتد، احتفت بها وسائل الإعلام الدولية، ولم تحفل بها كثيراً وسائل الإعلام العربية والإسلامية رغم خطورتها وحساسيتها، ولا ندري لماذا كان هذا التجاهل؟!

الحاصل أن الحملة بدأت بسرعة كبيرة، ولكنها انتهت وطويت بسرعة أكبر، لا لأن الغرب أراد حسمها عاجلاً لتفادي المزيد من (صدام الثقافات)؛ ولكن لأن «الخصم» رفع الراية البيضاء مبكراً، قبل أن تحتدم المباراة الأحدث داخل حلبة الصراع الحضاري!

صدر الكثير جداً من الكلمات والتصريحات على ألسنة الزعماء السياسيين والكتاب والمفكرين في الغرب باسم (الحرية الدينية) مع القليل جداً أو النادر من جانب الزعماء السياسيين والكُتَّاب والمفكرين في الجانب العربي والإسلامي، مع أن جوهر القضية متعلق بأصل التحاكم إلى الشريعة الإسلامية، وليس مجرد الحكم على مارق عنها خارج عليها يعلم الجميع أنه لن يُنفذ.

* تدخَّل جورج بوش ـ شخصياً ـ بوصفه رئيساً للولايات المتحدة «زعيمة العالم»، ليثبت مرة أخرى أن الولايات المتحدة ماضية في حربها للإسلام عقيدة وشريعة، وقال في خطاب له في ولاية فرجينيا: «إنني منزعج جداً لسماعي أن شخصاً تحوَّل عن الإسلام قد يعاقَب على ذلك، هذا ليس بالتطبيق العالمي للقيم التي تحدثنا عنها».. «من المزعج للغاية، أن بلداً ساعدناه على التحرر يعاقب شخصاً لاختياره ديناً آخر».. «إن لدينا نفوذاً في أفغانستان وسنستعمله، لنؤكد لهم أن هناك قيماً عالية يجب احترامها»!!
هذا بعض ما صرح به بوش، لكن الذي لم يصرح به؛ هو أن «التحول عن الإسلام» على حد وصفه هو أحد الأهداف الرئيسية التي لأجلها فتحت أبواب التنصير في أفغانستان وفي غيرها، في الوقت الذي أغلقت فيه الأبواب أمام الجمعيات الإسلامية الخيرية الإغاثية في كل مكان.
وما لم يصرح به أيضاً.. هو أن ما سماه «التطبيق العالمي للقيم التي تتحدث بها أمريكا» يهدف إلى أن تمنح الدول الإسلامية كل الحق لأي مسلم ـ من ناحية قانونية ـ أن يعتنق أي دين غير الإسلام، وأن يدعو إليه، وألا تعرقل أي حكومة جهود أي ملة أو نِحْلة تريد أن تنشط بدعوتها بكامل حريتها في أوساط الشعوب الإسلامية تحت حماية القانون الدولي والمحلي.

* أما كوندليزا رايس التي تعتبر نفسها وزيرة خارجية العالم، فقد ذهبت أبعد مما ذهب إليه بوش وقالت: «لن أتوقف عن ممارسة الضغط حتى يفرج عن عبد الرحمن» .... «إن هذا أمر مقلق للغاية.. لقد اتصلت بكرزاي، وأثرت معه الموضوع بأشد لهجة ممكنة، لكي تؤكد أفغانستان تمسكها بالدستور الجديد الذي ينص على احترام حقوق الإنسان».. «الحرية الدينية مبدأ أساسي من مبادئ الديمقراطية».

* وأما الصحافة الأمريكية، فقد وجدت في الموضوع فرصة لإثارة قضية تراها أهم، وهي قضية تضمين الدساتير في الدول الإسلامية إشارات تعتبر الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع، وتساءلت: هل يتناسب هذا مع الهدف الذي لأجله تسيِّر أمريكا جيوشها وتضحي بشبابها...؟!

* قالت صحيفة نيويورك تايمز في مـقالـها الافتـتاحي فـي 3 مارس 2006 تحت عنوان (سخط على أفغانستان): «يجب على الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان مراجعة القوانين المعمول بها هناك».. «إن أفغانستان ليست الحليف الوحيد الذي يطبق قوانين دينية قاسية».. «إذا كانت أفغانستان تريد العودة إلى أيام طالبان فلتفعل، ولكن من دون مساعدة أمريكية».

* وقالــت صحيــفة الواشنـطـن بوست في مقال لها في 23 مارس 2006، تحت عنوان (أطلقوا سراح عبد الرحمن): «من الناحية النظرية، ينص الدستور الأفغاني على ضمان الحرية الدينية، ولكن في الوقت نفسه ينص على أن الشريعة الإسلامية قانون البلاد، ولم يمض وقت طويل حتى ظهر ضرر هذا التعارض».. «لقد أمضى الرئيس كرزاي وقتاً طويلاً لتفادي أزمة دستورية بسبب التعارض بين مبدأ الحرية الذي يكفله الدستور، وبين مبدأ العمل بالشريعة»... «ما جدوى أي إنجاز للجنود الأمريكيين إذا لم ينجحوا في إنهاء تلك الحقبة الهمجية المنتمية إلى القرون الوسطى».

* وأمـا مجلـة ناشيـونال ريـنيو الأمـريكـية الصـادرة في 22 مارس 2006، فقد قالت في مقال لها بعنوان: (نحن وأفغانستان ومشكلة الشريعة): «نحن نحصد ما زرعناه في أفغانستان، ما يحصل هناك هو ما جلبناه على أنفسنا حين شاركنا في صياغة دساتير لا تفصل فصلاً تاماً بين السلطتين الدينية والمدنية»... «لقد جعل هذا الدستور الإسلام دين الدولة، جاعلاً للشريعة قوة مهيمنة على القانون، وناصّاً على ضرورة «دراسة» الفقه الإسلامي، وبعد كل هذا نأتي لنحتج على ذلك كنتيجة لهذا التداخل.. إن هذا يعد احتجاجاً فارغاً»!

* وفي صحيفة (ببتسبيرج تريبيون) صحفي يهودي من المحافظين الجدد، وهو باتريك بوكانان، علق على قضية المرتد في مقال له بعنوان: (أي ديمقراطية هذه؟) قال فيه: «أي ديمقراطية هذه التي يفاخر بها الرئيس بوش، هل هذا شيء يستحق أن نرسل شبابنا الأمريكي للحرب أو الموت من أجله؟ إذا كان الشعب الأفغاني متقبلاً محاكمة ومعاقبة عبد الرحمن لتركه الإسلام؛ فما هي الرسالة التي نستشفها عن مدى تسامحهم مع المسيحية ومدى التزامهم بالحرية الدينية؟» ومما قاله أيضاً: «لا يبدو أن المسيحية في وضع أفضل في تلك الديمقراطية الجديدة الأخرى في العراق».. «إن المسيحيين يهربون إلى سورية فراراً من الاضطهاد في العراق، وإن المحافظين الجدد الذين يتوقون إلى تحرير سورية كما حرروا العراق؛ إذا نجحوا في ذلك فليتولَّ الله المسيحيين في سورية حينئذ؛ لأنهم سيعاملون مثلما يعامَل المسيحيون في العراق».

انتقل التصعيد إلى أكثر من بلد أوروبي، بل إلى كل دول أوروبا ممثلة في الاتحاد الأوروبي، حيث ألقى هذا الاتحاد بثقله وراء حملة «الحرية الدينية» وأعلن على لسان وزيرة الخارجية النمساوية التي تترأس بلادها الاتحاد الأوروبي في دورته الحالية أن: «على الاتحاد الأوروبي أن يبذل ما بوسعه للإفراج عن الأفغاني الذي اعتنق النصرانية».. «إن رئاسة الاتحاد الأوروبي ستتابع الوضع عن كثب، وستقرر الخطوات التالية حسب تطور القضية».

* وقد هددت معظم الدول الأوروبية بوقف المساعدات عن أفغانستان إذا لم تفرج عن الأفغاني المرتد، ودخلت على خط المطالبة الرسمية بالإفراج عنه كل من بريطانيا وفرنسا وكندا وهولندا والنمسا والدانمارك وألمانيا التي هددت بسحب قواتها العاملة لحماية نظام كرزاي في أفغانستان المحتلة، وتبعتها في التهديد بلجيكا. أما إيطاليا فقد أرادت أن يكون لها دور يليق بموقعها كدولة راعية للنصرانية الكاثوليكية في العالم؛ فقد دعا البابا الجديد (بندكيت) إلى الإفراج الفوري عن الأفغاني المرتد وطالب باستعمال الرأفة معه، واستدعت إيطاليا سفيرها في أفغانستان وأعلنت ـ بعد مطالبتها بالإفراج عن المرتد ـ أنها مستعدة لاستضافته كلاجئ سياسي، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ آتت تلك الحملة العالمية النصرانية لمناصرة المرتد ثمرتها العاجلة بالإفراج السريع عنه رغماً عن الدستور الأفغاني والقضاء الأفغاني والبرلمان الأفغاني والشعب الأفغاني، بالرغم من ثبوت الاتهام ضده، واعترافه به وإصراره عليه!

يتبع ...........