يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ

والمحو كما نعلم هو الإزالة ، والتثبيت أي : أن يُبقِى الحق ما يراه ثابتاً .

وقد فهم بعض الناس ـ خطأ ـ أن كل حكم في القرآن قد جاء ليثبت وسيظل هكذا أبد الدهر ؛ ولكن عند التطبيق ظهر أن بعض الأحكام يقتضي تغييرها يغيرها الله لحكمة فيها خير للبشرية .

ونقول : لا ، لم يحدث ذلك ، ولكن كانت هناك أحكام مرحلية ؛ ولها مُدة محددة ، ولذلك جاءؤ قول الحق سبحانه :

( وعنده أم الكتاب ) الرعد 39

أي : عنده اللوح المحفوظ الذي تحددت فيه الأحكام التي لها مدة محددة ؛ وما أن تنتهي إلا وينزل حكم آخر مكانها ، وعلى هذا المعنى يمكن أن نقول : إنه لم يوجد نَسْخٌ للأحكام ، لأن معنى النَّسْخ أن يُزحزح حكماً عن زمانه ، وهنا لم نجد حكماً يتزحزح عن زمانه ؛ لأن كل حكم موقوت بوقت محد ؛ وما أن ينتهي الوقت حتى يبدأ حكم جديد .

أقول ذلك كي أنبِّه البعض إلى ضرورة أن يجلسوا معاً لدراسة ذلك ، حتى لا يختلف البعض في قول : هل هناك نسخ أم لا ، وأقول : فلنحدد النسخ أولاً ، لأن البعض يظن أن هناك حكماً كان يجب أن ينسحب على كل الأزمنة ، ثم جاء حكم آخر ليحل محله لحكمة تقتضيها مصلحة البشرية والمراد لله منها .

ولا يوجد حكم أنهى حكماً وطرأ عليه ساعة الإنتهاء ؛ بل كل الأحكام كانت مقدورة أزلاً ؛ وعلى ذلك فلا يوجد نَسْخ لأي حكم ، ولكن هناك أحكام ينتهي وقتها الذي قدره الله لها ؛ ويأتني حكم سبق تقديره أزلاً ليواصل الناس الأخذ به ؛ وما دام كذلك فلا يوجد نسخ .

ولننظر إلى قول الحق سبحانه :
البقرة 106
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ


ويتضح من منطوق الآية ومفهومها أن عند نسخ حكم يأتي الله بمثله أو خير منه .

إذن : ليس هناك نسخ وإنما هناك أحكام تؤدي مهمتها في زمن ثم يأتي زمن يحتاج إلى حكم خير منه أو مثله في الحكم ، ولكنه يوافق المصالح المرسلة مع مراد الله .

ولقائل أن يقول : ما دام سيأتي بخير من الآية المنسوخة أو المُنْسَأة فذلك أفضل ، ولكن لماذا يأتي بالمثْل ؟

وأقول : لأنك إن جاءك ما هو خير منها قد تستسيغه ، ولكن حين ننتقل إلى مثل ما جاءتْ به الآية ؛ فهذا مَحَكُّ الإيمان .

والمثْل هو التوجه في الصلاة إلى بيت المقدس في أول الدعوة ثم مَجِيء الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة ؛ فلا مشقة في ذلك .

ولكن هنا يتم اختبار الألتزام الإيماني بالتكليف ، وهنا الانصياغ للحم الذي يُنزله الله ، وهو حكم مقدور أزلاً ؛ وفي هذا اخيبار لليقين الإيماني في إدارة توجيه المُدبر لهذا السير .

وكذلك في الحج يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام ليُقبل الحجر الأسود ؛ ثم يرجم الحجر الذي يرمز لإبليس ، ونحن نفعل ذلك أسوة برسول الله عليه الصلاة والسلام ، وكلاهما حجر ، ولكننا نمتثل لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام ، كل هذا استجابة لأمر الآمر .

وحين يقول الحق سبحانه :
الرعد 39
يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ


فهو يعني أنه سبحانه يُنهي زمن الحكم السابق الذي ينتهي زمنه في أم الكتاب أي اللوح المحفوظ ؛ ثم يأتي الحكم الجديد .

والمثال : هو حكم الخمر ؛ وقد عالجها الحق سبحانه أولاً بما يتفق مع قدرة المجتمع ؛ وكان المطلب الأول هو تثبيت العقيدة ؛ ثم تجيء الأحكام من بعد ذلك .

وهناك فرق بين العقيدة ـ وهي الأصل ـ وبين الأحكام ، وهي تحمل أسلوب الالتزام العقدىّ ، وكان الحكم في أمر العقيدة مُلزماً ومستمراً .

أما الأحكام مثل حكم الخمر فقد تدرج في تحريمها بما يتناسب مع إلْف الناس ؛ واعتيادهم ؛ فقلل الحق سبحانه زمن صُحْبة الخمر ؛ ثم جاء التحريم والأمر بالإجتناب ، وعدم القرب منها .

والمثل في حياتنا ؛ حيث نجد من يريد أن يمتنع عن التدخين وهو يُوسَّع من الفجوة الزمنية بين سيجارة وأخرى ، إلى أن يقلل عنها بلطف ، وينفيها من حياته تماماً .

ونجد القرآن يقول في الخمر :
النحل 67
وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

وهنا يمتن الله عليهم بما رزقهم به ؛ ولكن أهل الذوق يلتفتون إلى أنه لم يصف الخمر بأنها من الرزق الحسن ؛ ووصف البلح والعنب بأنه رزق حسن ؛ لأن الإنسان يتناوله دون أن يفسده .

وهكذا يلتفت أهل الذوق إلى أن الخمر قد يأتي لها حكم من بعد ذلك ، ثم ينزل الحق سبحانه عظة تقول :
البقرة 219
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

وهكذا أوضح الحق سبحانه ميل الخمر والميسر إلى الإثم أكثر من ميلهما إلى النفع ، ثم جاء من بعد ذلك قوله بحكم مبدئي :
النساء 43
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ

ومعنى ذلك أن تتباعد الفترات بين تناول الخمر ، فلا يحتسي أد الخمر طوال النهار وجزء من الليل ، وفي ذلك تدريب على الابتعاد عن الخمر .

ثم يأتي التحريم الكامل في قوله تعالى :
المائدة 90
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

وهكذا أخذ الحكم بتحريم الخمر تدريجه المناسب لعادات الناس وتم تحريم الخمر بهوادة وعلى مراحل .

وهكذا نفهم النسخ على أنه انتهاء الحكم السابق زمناً وبداية الحكم الجديد ، وهكذا يعني أن الحكم الأول لم يكن مُنْسحباً على كل الزمن ثم أزلناه وجئنا بحكم آخر ؛ ولكن توقف الحكم الأول ـ أزلاً ـ قد انتهى ؛ وبدأ الحكم الجديد .

وهكذا لا يوجد مجال للأختلاف على معنى النسخ ، ذلك أن الحق سبحانه أرجع المحو والإثبات إلى أم الكتاب ؛ ففيها يتحدد ميعاد كل حكم وتوقيته ؛ وميعاد مجيء الحكم التالي له .

وما دام كل أمر مرسوم أزلاً ؛ فعلى من يقولون أن البدأ محرم على الله أن ينتبهوا إلى أن هذا المحو والإثبات ليس بداء ؛ لأن الابداء يعني أن تفعل شيئاً ، ثم يبدو لك فساده فتغيره .

والحق سبحانه وتعالى لم يظهر له فساد ما أنزل من أحكام أو آيات ؛ بل هو قدر كل شيء أزلاً في أم الكتاب ، وجعل لكل حكم ميقاتاً وميلاداً ونهاية .

ويصح أن يتسع معنى قول الحق سبحانه :
الرعد 39
يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ


ليشمل نسح رسالة برسالة أخرى ؛ فيكون محا شيئاً وأثبت شيئاً آخر

مثال : أن الله عز وجل أمر سيدنا آدم عليه السلام بتزوج الأخ لأخته وكان هذا الأمر لغرض تكاثر البشرية ؛ ولكن بعد زمن معين محى الله عز وجل هذا الحكم وبدله بحكم آخر ؛ والآن لا يجوز ليهودي أو مسيحي أو مسلم أن يتزوج من أخته .

فكل شيء فيه تغيير إلى الخير يصح فيه المحو والإثبات ، وهو من عند الرقيب العتيد :
ق18
مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ

أي أنه القادر على أن يأمر الرقيب والعتيد بأن يُثبتا الواجبات والمحرمات ، وأن يتركا الأمور المباحة ، وهو القادر على أن يمحو ما يشاء من الذنوب ، ويثبت ما يشاء من التوبة .

والله أعلم

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
من خواطر الإمام / محمد متولي الشعراوي .