بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله

الخطاب الدعوي يرتكز على الثواب والعقاب
محمد جلال القصاص

بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الخطاب الدعوي يرتكز على الثواب والعقاب

بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه:ـ

ينادي بعضهم بعدم مواجهة الكفار بالقول بأنهم في النار . وبيدي أربعة ، ووقفوا على طرف الخاطر يتصايحن يريدن المثول بين يديك أخي القارئ ، وهاأنذا أدفع بهن :

الأولى : الدعوة الإسلامية هي دعوة إلى الله ، تعرِّف الناس بربهم سبحانه وتعالى ، ليقصدوه بالتعظيم ، وليتبعوا شرعه ، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56 ، ومن ثم يفوزوا بما أعد الله لهم من نعيم في الدنيا والآخرة {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }النحل97.
وكذا ( الآخر ) فالنصرانية ـ على سبيل المثال ـ تدعو إلى ربها ، يسوع المخلص ، تدعو للفداء من أجل الصلب ، ومن لم يقبل يسوع مخلصاً فهو في الجحيم ( بحيرة الكبريت ) .
هم يفعلون ما يردده الدكتور الصيني ، لا يتحدثون عن العقاب مباشرة ، ولكنهم يؤمنون به ، ومن ينكره منهم .. من ينكر أن الخلاص لا يطال غير المؤمنين بيسوع مخلصاً هو جاهلهم أو خبيثهم ، أو قلة قليلة منزوية تتحدث بأن الخلاص يطال الجميع من آمنوا ومن لم يؤمنوا وهم قلة يتجمع حولها الكثرة يكذبونها ويردون قولها فلا نسمع لها ولا نحتج بها ، بل إن بعضُهم يكفر بعضَهم ، فكثير من طوائفهم لا تؤمن بخلاص الطوائف الأخرى .
فالمعتبرون منهم يقولون ـ بلسان حالهم أو مقالهم ـ أننا في الجحيم . وهم كاذبون . فهي جنة النعيم بحول الله وقوته وفضله ومنته .فلا داعي للخجل من أن نواجههم بما نعتقده فيهم فهم يعتقدون فينا مثل ما نعتقد فيهم .

وأعجب من هذا أنهم لا يصدقون تيك الأصوات ( المسلمة ) الناعمة التي تبشر الجميع بالخلاص ، وتتحدث عن الثواب ولا تتحدث عن العقاب ، فغاية ما تجد مثل هذه الأصوات عند القوم أن يقال إن في المسلمين ( معتدلون ) ثم يطلبون منك أن تستدير على ( المتشددين ) وتردهم ، وبالتالي تكون قد تحولت إلى عراك داخلي مع قومك ، وهذا ما جناه دعاة التوفيق بين الطوائف والملل المختلفة حقيقة . والمواجهة الفكرية الصريحة خير من هذا كله .

الثانية : الخطاب الشرعي يرتكز على الثواب والعقاب بشكل كبير جداً بل لو قلتُ كليةً لا أحسبُ أني مبالغ . والثواب والعقاب لازم من لوازم الإيمان بأسماء الله وصفاته ( التوحيد العلمي الخبري ) .
ولا يتحدث القرآن عن جنةٍ ونار فقط ، بل يعطي معرفة تفصيلية تطال العذاب بشكل تفصيلي تصويري .. وتصويري هذه مهمة جداً .. حتى أنك وأنت تقرأ القرآن كأنك في العذاب أو كأنك في النعيم ، أو كأنك ترى مشهداً يؤثر في وجدانك بل وأركانك فتدمع منه العينين إن كان القلب حاضراً ، انظر هذا : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }التوبة35 .
اقرأ ببطئ . كأنه يشوى .. ومن يشويه يوبخه .
وانظر هذا المشهد { إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً{12} وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً{13} } .

والجنة كذلك ، انظر لهذا المشهد البديع .. {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ }يس56
ماذا يحدث ؟!
ما حاول أن يقول العشماوي :
كأني بالوسائد والزرابي ... على سررٍ تمضح بالطيوبِ
وحور العين قد هيأن فيها ... مكاناً للحبيبة والحبيب .

التفصيل في الثواب والعقاب يدفع النفوس إلى ربها دفعاً ، ويضبطها على صراط الله المستقيم . وهو نهج القرآن . والثالثة تزيد الأمر بياناً .

الثالثة : في القرآن الكريم كل انحراف سببه عدم حضور الثواب والعقاب عند المنحرفين ، والعكس ، فهناك ربط واضح بين مخالفة الشريعة الإسلامية كلياً بالكفر أو جزئياً بالمعصية ـ أعني بها ما دون الكفر ـ وبين إنكار اليوم الآخر أو الغفلة عنه وعن ما فيه من ثواب وعقاب ، وهذه بعض الأمثلة .
القلوب المنكرة للتوحيد هي قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة قال الله {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ }[ النحل : 22 ]
والذين لا يؤمنون بالآخرة هم من يتنكبون الصراط ويسلكون السُّبل {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ }[ المؤمنون : 74 ] .
والذين لا يؤمنون بالآخرة تشمئز قلوبهم حين يذكر الله وحده {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }[ الزمر : 45 ].
والذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون بالبعث إذا ضلوا[1] في الأرض {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ }[ السجدة : 10] .
والذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين يصغون للأصحاب الشبهات والشهوات {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ }[ الأنعام : 113] .
والذين لا يخافون عذاب الآخرة لا يستفيدون من مصارع الظالمين{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ }[ هود : 103] .
وسلَّّط الله إبليس على الناس ليُعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }[ سبأ : 21 ]

ومَن زين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسناً هم الذين لا يؤمنون بالآخرة ، قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [ النمل : 4]
والذين لا يؤمنون بالآخرة على قلوبهم أكنة ، فلا يفهموا كتاب الله حين يتلى عليهم ، قال الله { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً . وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً . نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً }[الإسراء : 45 ـ47 ]

والذين يسمون الملائكة بأسماء الإناث ويقولون عنها بنات الله هم الذين لا يؤمنون بالآخرة[2] ( الثواب والعقاب) ، قال الله :{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى }[ النجم: 27]

والعكس صحيح ، فالقرآن الكريم يحدثنا بأن الذين يسعون في عمارة الأرض أو الذين يمتثلون لخطاب الشريعة عموماً هم الذين يؤمنون بالثواب والعقاب . وهذه بعض الأمثلة :
مَنْ يؤمن بالقرآن ويستفيد به هم من يؤمنون بالآخرة . قال الله : {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }[ الأنعام : 92 ] .
وقال الله : { طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ . هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [ النمل : 1ـ 3 ]
وقال تعالى : الم . تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ . هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}( لقمان : 1ـ4)
والمهتدون بهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عموماً هم الذين يرجون الله واليوم الآخر { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }الأحزاب21
والذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم يستعينون بالصبر والصلاة ولا يكبر ذلك عليهم ، {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ( البقرة : 45 ـ 46 )
ومن يجاهد في سبيل الله هم الذين يريدون الآخرة ويدفعون الدنيا ثمناً لها : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ }النساء74
ومثله :{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }الممتحنة6

والأمثلة في السنة النبوية كثيرة منها ما جاء في الصحيحين عن أسامة بن زيد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال :" يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ "[3]
يُخوِّفُ الله الآمرين ـ غيرهم ـ بالمعروف والناهين عن المنكر ، وهم لاهون ( من اللهو ) بأنفسهم عن فعل ما يأمرون به وترك ما ينهون عنه ، يخوفهم بما أعد الله لهم في الآخرة من عذاب .

ومن الأمثلة كذلك ما رواه مسلم في صحيحة عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ"[4]
فهنا أعمال ( الإحسان في القول ) و ( إكرام الجار والضيف ) تطلب بموجب الإيمان بالله واليوم الآخر .
وفي أحاديث الإسراء والمعراج أمثلة أخرى انظر ـ إن شئت ـ انظر مسند أحمد 13863، 20634.

الرابعة : وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يحدثهم ( والله إنها لجنة أبداً أو نار أبداً ) ( إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . يقول القرطبي : ( {نَذِيرٌ} أي مخوف من عذابه وسطوته لمن عصاه. {وَبَشِيرٌ} بالرضوان والجنة لمن أطاعه )
ونهج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقوم وأسد ، ونرى تصديق ذلك في حياة الناس .

محمد جلال القصاص
‏18‏/02‏/1431

-------------------------------------
[1] مادة ( ضلَّ ) يدور معناها على الخفاء ، انظر لسان العرب . ج 11/390 ، ( ولذلك تسمي العرب الدفن في الأرض إضلالاً ؛ لأنه تغييب في الأرض يؤول إلى استهلاك عظام الميت فيها ) أضواء البيان 2/204
[2] انظر الطبري 22/530
[3] البخاري /3027 ، ومسلم /5305 ، واللفظ من صحيح مسلم . و( تَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ ) الأقتاب هي الأمعاء والاندلاق الخروج بسرعة ، والمعنى تخرج أمعائه من بطنه بسرعة من العذاب ، انظر لسان العرب 10/ 102 ، وتاج العروس 1/840 ، وفتح الباري 13/52
[4] مسلم /67
صيد الفوائد

مبدأ الثواب والعقاب، سواء أكان الثواب والعقاب ماديًا أم معنويًا، أمر قررته شرائع السماء، وأقرته شرائع الأرض، وقامت عليه حياة الناس في الأولى والآخرة، وفي القديم والحديث؛ قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل:97) .


وقد حفل القرآن الكريم بالعديد من الألفاظ المتعلقة بمبدأ (الثواب) و(العقاب)؛ فمن تلك الألفاظ المتعلقة بمبدأ (الثواب)، لفظ (لأجر، وقد ورد هذا اللفظ في أكثر من تسعين موضعًا في القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} (البقرة:112)؛ ومنها لفظ (الحساب)، وقد ورد في القرآن - كاسم - في نحو سبعة وثلاثين موضعًا، منها قوله تعالى: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} (البقرة:212)؛ ومنها لفظ ( الجزاء )، وورد في القرآن - كاسم - في أكثر من ثلاثين موضعًا، من ذلك قوله سبحانه: {وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى} (الكهف:88)؛ ناهيك عن لفظ ( الثواب )، الذي ذُكر في القرآن - كاسم - في تسعة مواضع، منها قوله سبحانه: {ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها} (آل عمران:145) .


والحديث عن هذه الألفاظ الأربعة، يتركز على ثلاثة جوانب، أولها: معناها اللغوي؛ وثانيها: معناها القرآني؛ وثالثها: ما جاء بينها من فروق معتبرة.


الأجر


لفظ ( أجر ) من حيث اللغة، يفيد أمرين؛ أحدهما: الكراء على العمل؛ يقال: أجر فلان فلانًا، يأجره أجرًا: أعطاه الشيء بأجرة؛ ويقال: آجر فلان فلانًا: أعطاه الأجرة؛ ويقال: آجره الله، وأجره الله، كلاهما بمعنى. وثانيهما: جبر العظم المكسور؛ يقال: أُجرت يده، إذا جُبر عظمها المكسور. والمعنى الجامع بينهما: أن أجرة العامل كأنها شيء يُجبر به حاله، فيما لحقه من تعب وكد فيما عمله.


ثم إن مصطلح (الأجر) في القرآن، جاء على أربعة معان:


أحدها: بمعنى مهور الزوجات، ومنه قوله تعالى: {فآتوهن أجورهن فريضة} (النساء:24) أي: مهورهن.


ثانيها: بمعنى ثواب الطاعة، ومنه قوله سبحانه: {ولنجزين الذين صبروا أجرهم} (النحل:96) أي: ثوابهم؛ ومصطلح (الأجر) بمعنى (الثواب) إطلاقه كثير في القرآن.


ثالثها: بمعنى المقابل المادي على عمل ما، ومنه قوله تعالى: {وما تسألهم عليه من أجر} (يوسف:104)، وقوله سبحانه: {أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون} (الطور:40).


رابعها: بمعنى نفقة المرضعات، كقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} (الطلاق:6)، أي: نفقة الرضاع.


الحساب


لفظ (حسب) لغة، يدل على أمور أربعة:


أولها: العد والعدد؛ يقال: حسبت الشيء أحسبه حَسبًا وحُسبانًا؛ ومن هذا الباب (الحَسَب) الذي يعد منه الإنسان؛ يقال: فلان ذو حسب: إذا انتسب إلى عائلة شريفة. ومنه قولهم: احتسب فلان ابنه: إذا مات ولده، فإنه يحسبه ذخرًا له عند الله؛ ومنه أيضًا، قولهم: فلان حسن الحسبة بالأمر: إذا كان حسن التدبير له، والقيام به على الوجه المطلوب والمأمول.


ثانيها: الكفاية؛ تقول: شيء حساب، أي: كاف؛ ويقال: أحسبت فلانًا: إذا أعطيته ما يرضيه؛ ومن هذا الباب، قولهم: حسبك هذا: أي يكفيك.


ثالثها: الحسبان، جمع حُسبانة؛ وهي الوسادة الصغيرة، التي يتكئ عليها الإنسان؛ يقال: حسَّبتُ الرجل أُحَسِّبه: إذا أجلسته ووسَّدته الوسادة.


رابعها: الأحسب، الذي ابيضت جلدته من داء، ففسدت شعرته، كأنَّه أبرص .


وأكثر نصوص الشرع وردت على المعنى الأول والثاني؛ فمن الأول، قوله تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} ( الرحمن:5)؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) متفق عليه؛ ومن الثاني، قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله} (آل عمران:173)، أي: كافينا؛ ومنه ما في "الصحيحين"، من قول عائشة رضي الله عنها: (حسبكم القرآن)، أي: يكفيكم كتاب الله، فيما أنتم فيه مختلفون.


ثم إن لفظ (الحساب) في القرآن، جاء على معان عديدة:


أولها: بمعنى الكثرة، ومنه قوله تعالى: {عطاء حسابا} (النبأ:36)، أي: كثيرًا.


ثانيها: بمعنى الأجر والثواب، ومنه قوله تعالى: {إن حسابهم إلا على ربي} (الشعراء:113)، أي: أجرهم.


ثالثها: بمعنى العقوبة والعذاب، ومنه قوله تعالى: {إنهم كانوا لا يرجون حسابا} (النبأ:27)، أي: لا يخافون عذابًا.


رابعها: بمعنى الكفاية، ومنه قوله تعالى: {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} (المائدة:104)، أي: يكفينا ما وجدنا عليه الاباء والأجداد من الطرائق والمسالك.


خامسها: بمعنى الحفيظ، ومنه قوله تعالى: {إن الله كان على كل شيء حسيبا} (النساء:68)، أي: حفيظًا.


سادسها: بمعنى الشاهد الحاضر، ومنه قوله تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} (الإسراء:14)، أي: شهيدًا.


سابعها: بمعنى العرض على الملك الأكبر، ومنه قوله تعالى: {يوم يقوم الحساب} (إبراهيم:41)، أي: العرض على الرحمن.


ثامنها: بمعنى العدد، ومنه قوله تعالى: {لتعلموا عدد السنين والحساب} (يونس:5)، أي: عدد الأيام.


تاسعها: بمعنى المنَّة، ومنه قوله تعالى: {يرزقون فيها بغير حساب} (غافر:40)، أي: بغير منِّة عليهم، ولا تقتير؛ وهذا معنى من المعاني الذي فسرت به الآية.


عاشرها: دوران الكواكب في الفلك، ومنه قوله تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} (الرحمن:5)، أي: يدوران حول القطب كدوران الرحى.


حادي عاشرها: الحِسبان، بمعنى الظن، ومنه قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا} (آل عمران:169)، أي: لا تظنوا ذلك؛ وهذا الاستعمال في القرآن كثير .


الجزاء


(الجزاء) لغة يطلق على معان ثلاثة؛ أولها: الكفاية، يقال: جازيك فلان، أي: كافيك؛ وثانيها: المكافأة بالشيء، يقال: جزيته كذا وبكذا؛ وثالثها: المقابلة على الفعل، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. ولم يجئ في القرآن إلا (جزى) دون (جازى)؛ وذاك أن (المجازاة) هي المكافأة، والمقابلة بين طرفين، وهي مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها. ونعمة الله تتعالى عن ذلك، ولهذا لا يستعمل لفظ (المكافأة) في حق الله سبحانه.

ولفظ (الجزاء) ورد في القرآن على ستة معان:


أولها: بمعنى المكافأة والمقابلة، ومنه قوله تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} (الليل:19)، أي: تقابل وتكافأ.


ثانيها: بمعنى الأداء والقضاء، ومنه قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} (البقرة:48)، أي: لا تقضي ولا تؤدي.


ثالثها: بمعنى: الغُنية والكفاية، ومنه قوله تعالى: {واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده} (لقمان:33)، أي: لا يغني ولا يكفي.


رابعها: بمعنى العوض والبدل، ومنه قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} (المائدة:95)، أي: فبدله ومبدله.


خامسها: المبلغ الذي يدفعه أهل الذمة المقيمين في دار الإسلام، ومنه قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد} (التوبة:29)، أي: حتى يدفعوا ما يقدره الإمام على فرد منهم.


سادسها: بمعنى ثواب الخير والشر، ومنه قوله تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} (غافر:17)، أي: إن خيرً فخير، وإن شرًا فشر.


ثم الجزاء على الخير والشر في القرآن، يطلق على أمور؛ فمن إطلاقات الجزاء على الخير: الجزاء على الإحسان، قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن:60)؛ ومنه الجزاء على شكر الصنيع، قال تعالى: {إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا} (الإنسان:22)؛ ومنه الجزاء على الصبر، قال تعالى: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} (الإنسان:12)، ومنه الجزاء على فعل الخيرات وعمل الصالحات، قال تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} (السجدة:17) .


ومن إطلاقات الجزاء على الشر: الجزاء على كسب السيئات وعمل المعاصي، قال تعالى: {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} (النمل:90)؛ والجزاء على عداوة أهل الحق، قال تعالى: {ذلك جزاء أعداء الله النار} (فصلت:28)؛ والجزاء على القول الباطل، قال تعالى: {اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق} (الأنعام:93).


الثواب


لفظ (ثوب) لغة، يدل على العود والرجوع؛ يقال: ثاب يثوب، إذا رجع. و(المثابة): المكان الذي يثوب إليه الناس، قال تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} (البقرة:125)، معناه: مكانًا يثوب الناس إليه على مرور الأَوقات. و(الثواب): ما يرجع إِلى الإنسان من جزاء أعماله.


ولفظ (الثواب) ورد في القرآن على خمسة معان:


أولها: بمعنى جزاء الطاعة، ومنه قوله تعالى: {نعم الثواب وحسنت مرتفقا} (الكهف:31)، أي: نعم الأجر والثواب.

ثانيها: بمعنى الفتح والظفر والغنيمة، ومنه قوله تعالى: {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة} (آل عمران:148)، فثواب الدنيا: هو الفتح والنصر والغنيمة.

ثالثها: بمعنى وعد الكرامة، ومنه قوله تعالى: {فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار} (المائدة:85)، أي: وعدهم.


رابعها: بمعنى الزيادة على الزيادة، ومنه قوله تعالى: {فأثابكم غما بغم} (آل عمران:153)، أي: زادكم غمًا على غم.


خامسها: بمعنى الراحة والخير، ومنه قوله تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} (النساء:134)، أي: عند الله الراحة والخير.


ثم إن أهل العلم يذكرون فروقًا بين بعض هذه الألفاظ؛ من ذلك، أن لفظ (الثواب) يقال في الخير والشر، لكن الأكثر استعماله في الخير، قال تعالى: {ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب} (آل عمران:195)؛ وكذلك لفظ (المثوبة)، قال تعالى: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير} (البقرة:103)؛ وقال سبحانه: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} (آل عمران:60)؛ و( الإثابة ) تستعمل في المحبوب كثيرًا، قال تعالى: {فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار} (المائدة:85)، وفي المكروه قليلاً، قال تعالى: {فأثابكم غما بغم} (آل عمران:153)؛ ولفظ (التثويب) لم يرد في القرآن إلا فيما يكره، قال تعالى: {هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} (المطففين:36) .


ولفظ (الثواب)، وإن كان في اللغة يطلق على الجزاء الدنيوي والأخروي، إلا أنه قد اختص في العرف بالجزاء الأخروي على الأعمال الصالحة من العقائد الحقة، والأعمال البدنية والمالية، بحيث لا يتبادر منه عند الإطلاق إلا هذا المعنى؛ في حين أن مصطلح (الأجر) يطلق على الجزاء الدنيوي والأخروي معًا.


ومن الفروق بينهما، أن (الأجر) يكون قبل الفعل المأجور عليه؛ لأنك تقول: ما أعمل حتى آخذ أجري، ولا تقول: لا أعمل حتى آخذ ثوابي؛ لأن الثواب لا يكون إلا بعد العمل، قال تعالى: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت} (القصص:26)، وقال أيضًا: {على أن تأجرني ثماني حجج} (القصص:27).


والأصل في معنى (الأجر) ما يعود من ثواب العمل، دنيويًا أو أَخرويًا؛ لكن جرى استعمال (الأجرة) في الثواب الدنيوي، واستعمال (الأجر) في الثواب الأخروي.


وذكروا من الفروق بين لفظ (الأجر) ولفظ (الجزاء)، أن (الأجر) يقال فيما كان من عقد، كالإجارة على عمل ما؛ وما كان يجري مجرى العقد، كإعطاء أجر مادي لمن يقوم بخدمة ما، من غير اتفاق مسبق؛ أما (الجزاء)، فيقال فيما كان من عقد، كأن تعطي عاملاً يعمل لديك جزاءً على عمله، أي: أجرًا؛ ويقال كذلك في غير العقد، كأن تعطي الطالب جزاء ما، بسبب جده ونشاطه؛ وثمة فارق آخر بينهما، وهو أن لفظ (الأجر) لا يقال إلا في النفع دون الضر؛ أما لفظ (الجزاء)، فيقال في النافع والضار.

الشبكة الإسلامية