فنقول وبالله التوفيق :

هذه القضية قد تكون دعوة حقيقية جميلة وتهدف فعلاً لأمر سديد يراد منه خيراً جزيلاً للنفس والمجتمع والدين ..
على أنها كلمة مطاطة تحمل على أكثر من محمل وتخرج أكثر من تخريج..
فإن حملناها على محمل حسن : فحقيقتها إنها إحدى الفضائل التي دعا إليها الإسلام..
الدعوة إلى الله .. إلى الحق ..
التجرد عن الأحكام المسبقة ، والتأثر بالآخرين ، ونبذ التبعية ، والبحث بنفسك عن الحقيقة ..
نعم هذا هو الحق الذي لا مرية فيه لمن رزقه الله البصيرة ..
ينبغي على كل شخص أن يجرد نفسه من تبعية المذاهب إلى الهدى بالدليل ..
ومن تبعية التقاليد وموروثات الآباء إلى رحمة التوحيد ..

وهذا هو ما أمر به الإسلام ديننا الحنيف حيث دعا الناس إلى الدخول في الحق الذي لا شك في أحقيته ولا يُختلف عليه ولقد أضحتْ فطرة ابن آدم تقر بخالق للخلق قال تعالى ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ))

إلا أنه لا بد للعاقل أن يعرف من أن يأخذ وكيف يأخذ ..
ولذلك نبه سبحانه في كتابه الكريم أنه يخاطب أولو الألباب والعقول ذوي البصائر ، في دعوته لهم لتوحيده ونبذ الشرك به
((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ))
((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ))
((كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))
((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))

وحاجهم بالعقل في كون فطرة البشر في الأصل تقر بالخالق .. ولكنهم ضلوا بعقولهم فأضافوا للكون خالقاً آخراً أو وسائطاً للعبادة فيحاجهم الله تعالى بقوله :
((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ))
((وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ))

وأرشدهم لاستخدام عقولهم في تحقيق الحق ، ومعرفته والبحث عن الحقيقة لا البقاء على موروثات الآباء
((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ))

ونبه سبحانه إلى نبذ التقليد الذي هو عدو الحقيقة فقال ((بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ))
((وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ))

وبعد ذلك اختلف الناس حسب طبائعهم وشخصياتهم ، فمنهم من قدم الموروثات على الحقيقة الظاهرة ومنهم من قدم طغيان النفس وعنادها..
((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))

فينبغي لكل مسلم أن يدعو إلى الله .. إلى التوحيد .. إلى الحقيقة التي تفرض نفسها على الواقع .. ويبين لكل مخالف من نصارى ويهود وملحدين ومشركين ويبصرهم بالحقائق والدلالات..

فهذه دعوة الإسلام لهذه القضية إلا أن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه لأغراض خبيثة ، وذلك بتعميم هذه الدعوة مع طرح جملة من الخطوط التي تعينهم في توجيه الباحث المدعو إلى طريق اختاروه له ..

فقد يراد به التشكيك في مسلمات وأصول أصيلة بدعوى البحث عن الحقيقة..
((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ))
=====

فإن طرح سؤالاً هنا يستفهم عن طريقة البحث مع اختلاف مشارب الناس في أفكارهم وعقولهم وعقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم وأديانهم
فنقول :
إن طريقة البحث عن الحقيقية يختلف باختلاف هؤلاء الأشخاص ولكل حقيقة طريقتها الخاصة في الظهور والبحث ..
ومما ينبغي الإشارة إليه اتصاف الباحث بصفة هي اتهام النفس بالتقصير والعجز حتى يصل من الظن إلى اليقين ..
إذا أولاً : لابد من الاتفاق على المسلمات والحقائق التي لا يتمارى فيها بني الإنسان
ثم ثانياً : تقرير المسلمات والحقائق التي يعتمد عليها الأمر المبحوث فيه.
فمن المعلوم أن ثمة أمور لا تخضع للبحث وأن البحث عنها ضرب من الجنون ومثل هذا من يبحث عن حقيقة وجود الكعبة أو وجود أرض قارة أمريكا ..
بل قد يعد هؤلاء من الموسوسين والمتشككين السوفسطائيين.

ثالثاً : استعمال الطرق الموصلة للهدف ..
فمن طرق البحث عن الحقيقة :
1- النظر في الدلالات ، والمسلمات ..
2- ومن طرق البحث أيضاً اعتبار الحقائق المنثورة ..

3- ومنها سؤال الثقة ..
فالناس كما ذكرنا تختلف في أفهامها وهممها فليس الجاهل كالمتعلم ، ولا الطالب كالأستاذ ولا الصغير كالكبير ولا الحكيم كالعقيم ..
فالخبرة بالحياة أيضاً لها دور هام أيضاً في هذا .. وهي طريقة متبعة في كل العلوم الإنسانية فلنتدبر ..
وقد وجهنا إلى ذلك الباري سبحانه فقال : ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ))
((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))
وقال سبحانه ((فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرً))

وقال عز من قائل : ((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا))
وفي هذا إشارة أن العلماء يستنبطون العلم والحكم من الأدلة حسب ذخيرة علمية واسعة سابقة لديهم ، ولذلك فإن استنباطهم لا يخرج عن المراد الشرعي بسبب تعلقه به بخلاف قليل العلم والخبرة فإنه إذا استنبط خالف لعدم اعتماده على أساسيات سابقة والله المستعان


وأضرب على ذلك مثالاً واقعياً مما يدل على وجوب الرجوع إلى أهل العلم والشأن وأن عقولنا وخاصة أهل زمننا قاصرة عن فهم أساليب القرآن وهو أنك لو أتيت لأي شخص من ذوي الثقافات العالية وقلت له ما ترى في هذه الآية
((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ))
لقال هذا ظلم ، ونفي للخيرية في الصم والبكم الذين لا ذنب لهم وهو من خلقهم فكيف .. ، ولما .. ، وما السبب ... وهلم جر ..

ولو رجع هذا الرفيق ذو القلب الرحيم والنفس الودود إلى كلام أهل الشأن والاختصاص لتبين له جهله وأن أساليب اللغة العربية أكبر من يحاط بها في زمننا ، وأن القرآن معجز بيانياً وقد أعجز أهل البيان فكيف بأهل العجز والهذيان ..

فمعنى الصم والبكم هنا هم أهل العناد والكفر ممن هو أصم أبكم عن سماع الحق وقبوله ، ومن معاني السمع الفهم والإدراك والقبول والإجابة والطاعة .. ولذلك لو رجع لقراءة الآية وتدبر أقر وأذعن ..
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ))
ويشهد لها مواضع أخرى من كتاب الله مثل قوله تعالى :((أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا))
((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))

فانظر كيف لو تركنا الأمر لعقولنا لكدنا أن نخرج من ديننا ونقع في الكفر ولعياذ بالله إذ اتهام الله بالظلم كفر .. والظلم هو تقدم الجاهل وافتياته على اختصاص العالم
والله المستعان
*======-*-======*

ولكننا نرجع إلى سؤالنا عمن هو الثقة الحكيم والخبير الذي يستحق أن توضع فيه ثقتك في البحث عن الحقيقة ؟
الجواب :
إنه من توفرت فيه مقومات الثقة البشرية من : الصدق والأمانة والخبرة والعلم
وهذا ما اجتمع عليه العقلاء بغير تواطؤ ولا توافق .
والتعرف على توفر هذه الصفات يعرف إما بالاستفاضة أو بالمعاشرة..
ثم لا بد من التحقيق في استحقاقه ويكون بمقارنة فعاله بمقاله ، ومن ثم بالحقائق والمسلمات في المبحوث عنه ..
ثم لا ينبغي الانجرار خلف كل مقاله بل لا بد للباحث أن يأخذ من هذا الموثوق به العلم المراد التحقيق في شأنه ،

ومن ثم تأتي المطالبة بالتدليل على مقاله ، وربطه بالحقائق المسلمة كالكتاب والسنة إن كان المراد مسألة شرعية عند المنتسبة لأهل الإسلام أو قواعد العلم المراد التحقيق في شأنه ..

وهنا ينتج لنا حالان :
إما أن نجد أنه قد خالفت الحقائق مقاله أو اشتبه أو وقع ثمة اعتراضات ... فعليه أن يضع مقاله على الرف إلى حين عودة إليه إما لإبطاله أو لنصره أو لتحقيقه ..

وإما أن تكون وافقت الحقائق مقاله فلقد أصيب المراد .

ولكن ينبغي عدم الاقتصار عليه بل هنا تأتي الخطوة الأخرى وهي البحث عن شخص آخر توفرت فيه تلك المقومات ليعود فيكرر ما ذكر في الأول ..

وهكذا حتى يصل للقناعة والتي يكون وصل إليها بنفسه من مقارنة الأقوال وعرضها على الحقائق ..

فإن كان الشخص لا يستطيع أن يقوم بهذا الأمر ، لضخامة الجهد وطول الوقت وضعف التدبير وقلة الحيلة ونقص العلم ووجوب توفر الآليات والأوليات من العلوم التي تؤهل الشخص للقيام بمثل هذا العمل ..
فإنه عاجز عن تحقيق كمال الهدف ، فهنا عليه لزوماً الإتباع ..

ويطالب بمعرفة الحقائق المسلمة – الدليل لقول العالم المتبع من الكتاب والسنة في الشرع - ومن ثم فإن الاستفاضة من أتباع الحقيقة المتفق عليها في شأن الثقة العالم فيها تكفي في إتباع قوله ..

وذلك كما يُتَبَع الطبيب من غير التحقيق في شأن طبه ودراسة علمه بل يُكتفى بالاستفاضة في كونه أهلاً للثقة من الصدق والأمانة والخبرة والعلم ..

وعلى هذا فكل مخالف للكتاب والسنة من أهل الإسلام لم يحقق الأصل الأول في بحثه وهو التحقيق والمقارنة بالأصل ..
----
فإن قيل كيف نعرف الحق مع تعدد الفرق وكل يدعي وصلاً بليلى ،
فإنا نقول أن الجواب يكمن في قولنا :
من وافق الحق فهو على الحق ..

ويتضح هذا بفرضية طبيب أراد التحقيق في مسألة طبية اختلف الأطباء فيها ، فإن الرجوع فيها يكون إلى المسلمات والقواعد الطبية ،

وهكذا الأمر في الشرع فمن آمن بالله رباً وبمحمدٍ نبياً وبالإسلام ديناًَ فإنه لابد وأن يحتكم للمسلمات الشرعية وهي الكتاب والسنة

وعليه فإن المتشتت بين علماء الفرق عليه أن يعرض أقوال العلماء على الكتاب والسنة فمن وافقت فتواه الأصول فهو الملتزم بها ، ومن خالف وكثر منه الخلاف إلى أصول غيرها كالمشايخ والرجال والعقول فقد خالف القواعد والأصول الشرعية.

والله الهادي إلى سواء الصراط ..


فهذا ما تمكنت من تسطيره وهو جهد المقل وأرجو ألا يكون عمل المخل ، وفي النفس بقية من لهب ، وما لا يدرك كله لا يترك قله ، والعجلة مظنة الزلل فإن تجد عيباً فسد الخلل والله من وراء القصد ..