مد «محمد» -ذو السنتين- يده ليطفىء جهاز الكمبيوتر الذي يعمل عليه والده؛ لينفجر غاضباً وتثور ثائرته على «أم محمد» ملقياً باللوم عليها وطريقة تربيتها لابنها في تأخر إنجازه لمهام عمله، إذ لم تعلمه الصح من الخطأ، ولم تفهمه الأمور التي يجب عليه أن يتجنبها؛ ليعاقب «محمد» باحتجازه بعيداً في زاوية المجلس، مبرراً ذلك بحجة أنّه يعلمه ويؤدبه!.لم يكن يعرف «أبو محمد» أنّ الطفل في هذه المرحلة لا يزال غير مدرك لسلوكه، ولا يستحق ردة الفعل الحادة؛ لأنه لم يتعامل معه بمستوى فكره، وبراءة طفولته، وإنما تعامل معه على طريقته من الغضب والعقاب، رغم أن الطفل في هذا العمر يحاول أن يلفت انتباه والديه بتصرفات وسلوكيات قد لا يقبلونها، حيث أنّه قد يسعى لجذب الانتباه بالصراخ أو كسر الأشياء، وقد يضرب الأطفال الآخرين، ويأخذ ألعاب من يصغره سناً، ويشد شعر البنات، وما هذا إلاّ بسبب غريزة البقاء التي خلقها الله تعالى في كل إنسان، وإن اختلف التعبير عنها من طفل لآخر، كما قد يلجأ الطفل لطرق متعددة لتلبية احتياجاته.. ولأنّ البيت هو المدرسة الأولى والمكان التربوي الأكبر الذي يؤثر في شخصية وتكوين الأبناء؛ فعلى الآباء الاجتهاد في تربية أبنائهم، وبناء شخصيتهم؛ فما يُزرع في الطفل اليوم يُحصد غداً، وتحديداً إذا كبر واستلم مهامه ومسؤولياته المستقبلية.


برمجة المعلومات والسلوكيات
وقال "د.عبد الرزاق كسار" -مستشار أسري وخبير تنمية بشرية-:"لا يوجد شخص يؤدي مهاماً أو يمارس سلوكاً معيناً أو يبدع في مهارة معينة ما لم يكن مهيأ نفسياً لذلك، ويتأكد هذا الأمر مع أطفالنا وأبنائنا، فالأطفال لا يمكن أن يتمكنوا من استيعاب المهارات الحياتية إذا كانوا يعيشون في أجواء غير صحية، أو أنّهم لم يتلقوا هذه المهارات في أجواء من الحب، والأمن، والرعاية السليمة، لأنّ الطفل يتبرمج أو تتكون معلوماته وسلوكياته من خلال الوالدين، والمحيط العائلي، والأصدقاء، والإعلام، إضافةً إلى التكنولوجيا الحديثة، فهو يحتاج إلى عدة أمور لا تقل أهمية عن الأكل والشرب لينمو بشكل سوي ويستطيع استخدام المهارات التي تقدم إليه، فهو بحاجة ماسة إلى الحب، والاحتواء، وإشعاره بأنّه مختلف، إلى جانب التقدير، والاشتراك في الأنشطة الجماعية، بشكل يخلق فيه الانتماء، كما يحتاج إلى اللعب، والتشجيع، والثقة به وتحميله المسؤولية".
شفقة أم غفلة
وأضاف "د.كسار": "عددٌ كبير من الآباء لا يولي بعض هذه الحاجات أهمية، وهنا مربط الفرس، فنجد البعض يحب دون أن يعبر عن الحب، ما قيمة الحب إذا لم نعبّر عنه؟، ونجد البعض لا يحمّل الأبناء أي مسؤولية شفقة بهم حيناً وخوفاً من عدم إجادتهم حيناً آخر، فينشأ الطفل مزعزع الثقة بنفسه، ويعتمد على الآخرين في كل شيء، وحين يكبر قليلاً قد يقوده الأخرون لفعل ما يريدون، ثم يأتي الأب ليسأل (ونسأل لماذا شخصية ابني ضعيفة!)، وحتى تساعد ابنك في بناء شخصية سوية تستطيع الابتكار واتخاذ القرار، وتكوين دافعية بسيطة لديه لكل ما يحب من أمور، ويجب أن تستمع له وتتدرج في تحميله للمسؤولية، ولا تخشى عليه كثيراً، فعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: (أشفقوا على أبنائكم من كثرة إشفاقكم عليهم)، وإهمال الحب والقرب وعدم تلبية احتياجات الابن، وعدم الاستماع إليه؛ يشعره بأنّه غير مرحب به، وليس مقبولاً لوالده، فيشعر بالوحدة والضياع، فتكون النتيجة سلوكا سلبيا لجذب الاهتمام، وعلى الأب أن يفكر بطريقة تفكير سن ابنه لا بسن الأب،
وان يفصل بين أفعاله وبين شخصيته، وأن يحاول أن لا يمس كينونته"، مبيناً أنّ السن المناسبة لإكساب الأبناء عادات ومهارات حياتية تعينه على المستقبل هي من ولادته إلى وصوله لمرحلة المراهقة المتوسطة.


مراحل التأثر
وأشار "د.كسار" إلى مراحل بناء الشخصية واللاعب الأساسي في العملية، قائلاً: "يشترك في ذلك على حد سواء الأب والأم، وإن كان لابد لنا أن نميز فنقول في السنوات الخمس الأولى قد تكون الأم أكثر تأثيراً بحكم قربها عاطفياً وجسدياً من طفلها، وبعد ذلك قد يأتي دور الأب في إرساء معان عظيمة من خلال القدوة؛ لأنّ ما بعد الخامسة يبدأ الطفل في محاكاة التصرفات، ويبدأ في الربط والاستنتاج والتفكير المنطقي البسيط"، محذراً من بعض السلبيات خصوصاً إذا بدأ الطفل في التمييز مثل؛ كثرة النقد، واللوم المستمر، والمقارنة بينه وبين الآخرين، والسخرية والاستبداد بالرأي دون تفسير، مبيناً أنّ الابن إذا عاش في جو من الانتقاد الدائم أصبح عنيداً، وإذا عاش في جو من الكراهية أصبح عدوانياً،وإذا عاش في جو من السخرية أصبح انطوائياً وميالاً للخوف، إذا عاش في جو من التأنيب واللوم أصبح ضعيف الثقة.
تطبيقات عملية
وأضاف "د.كسار": "لا بد أن يعي الآباء أنّه من خلال التطبيقات العملية سيؤثرون بلا شك إيجابيا في سلوك أبنائهم، عن طريق تشجيع الطفل على الحديث، وهذا لا يتم إلاّ في جو يخلو من الخوف والسخرية، اسمع جيداً وكرر له (أنا أسمعك، كمل يا بطل)، عدم الإكثار من قول (لا) بدون داعٍ، عدم جعل علاقة الأب بأبنائه علاقة الأدنى بالأعلى (اسأله عن رأيه)، عدم رفع الصوت عند طلب شيء (تحدث معه بحب، فلا ضغائن في التربية)، تحدث معه عما تريد لا عما لا تريد (لا تقل له لا تعصِ أمك، بل قل أطع أمك)، شجعه بالعبارات التي يطرب لها (أنت رائع، اخترت الاختيار السليم)، شجع السلوك الاعتمادي لدى الطفل (في اللعب، والدراسة، والتعامل مع الآخرين)، اجعله يختار الطريقة التي يعبر بها عن نفسه، ولا تصحح له أمام الآخرين، كن صادقاً معه (قل له افعل كذا، وسأقدم لك كذا)، شاركه هواياته (اسأله ما هي هواياتك وشاركه بها)، اهتم بلغة الجسد، وبالأحضان (تعال أريد أن أضمك إلى قلبي).
محاذير تربوية
وحذر "د.الكسار" من بعض المحاذير في التربية مثل الحدة (ليس كل شيء أبيض أو أسود)، والقولبة، والنمطية، والغضب والمثالية الزائفة، مضيفاً: "يجب أن نقبل أبناءنا مهما بدا منهم، حتى لا نؤثر على نفسياتهم، ولنعلم جميعاً أنّه إذا عجز عقل أبنائنا عن التعبير تحدث الجسد فوراً (على شكل قضم أظافر، أو تأتأة أو تبول ليلي، أو خوف من المجهول).

.alriyadh.com