الإيذان بتحول الإمامة كان في ليلة التتويج (ليلة الإسراء):
وعلى نحو ما كانت إمامة النبي ليلة الإسراء بإخوانه من الأنبياء عن طواعية وطيب نفس، إشارة واضحة إلى أن النبوات يصدق بعضها بعضا ويمهد السابق منها للاحق، وإقراراً مبيناً بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، أخذت كما هي على يد رسولنا صلى الله عليه وسلم بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين .. فقد كانت كذلك تتويجاً مشرفاً لهذا النبي الخاتم ولأمته وإنفاذاً مرتقباً لسنن الله الكونية والشرعية في الاستبدال والاستخلاف، وفي تحول الإمامة والقيادة والخلافة من بني إسرائيل الذين رغبوا عن ملة إبراهيم فسفهت بذلك نفوسهم، إلى إخوتهم وبني أعمامهم من بني إسماعيل الذين رغبوا فيها.
ولأن الله خلق الخلق لعبادته وقد تخلى بنو إسرائيل- أعنى أحفادهم ممن هم من صلبه- عن تأدية هذه المهمة، وفعلوا ما استوجب استبدال غيرهم بهم، فان الحكمة تقتضي وفق سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير، أن يستعاض عنهم بآخرين، ولا بد أن يكونوا هنا من أبناء العم لكونهم ممن قال إبراهيم: (ومن ذريتي)، وأن يأتي من صلب إسماعيل الذي هو من نسل إبراهيم أيضاً، من يجدد هذه الملة ويرسخ معالمها ويقيم دعائمها ويرفع بنيانها ويعيد أمجادها ويعلي من قدرها، وهذا ما حدث بالفعل ليلة الإسراء التي انتقل فيها إرث الملك والنبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أمته بعد فترة تمهيد استمرت قرابة العشر سنوات.
الأمر الذي يعنى ضمناً أن هذه الأمة هي وحدها المؤهلة لوراثة أرض النبوات أرض الميعاد- بيت المقدس وسائر الأراضي الفلسطينية- وليس هذا في شريعة المسلمين فحسب بل وفي كتب اليهود والنصارى أيضاً، فقد ورد في سفر حجي2: 6-9 "قال رب الجنود: هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة. وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداً.. مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، قال رب الجنود، وفى هذا المكان أعطى السلام" انتهي النص، ومشتهى كل الأمم المذكور فيه، أصله العبراني (حمدون) أي محمود الأمم، وهذا بصريح نبوة حجي ينطبق على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لكون اسم (محمود) هو من ضمن أسمائه، ويتضح من النبوءة أن المراد من البيت بيت المقدس، وحين أسري إليه برسولنا- صلوات الله وسلامه عليه- في حياته زاد ذلك من شرفه ورفع من مكانته، ومن ثمّ توجهت إليه أنظاره وأنظار الموحدين الذاكرين الممجدين لله من أمته فكان أولى قبلتي المسلمين، وهذا ما يوافق عبارة "أملأ هذا البيت مجداً"، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد قام المسلمون بفتحه وفى هذا المكان أعطى رب الجنود السلام الذي أتى به رسول الرحمة والسلام ونشره الخليفة عمر بن الخطاب في ربوع هذه البلاد المقدسة، فقد أعطى رضوان الله عليه الأمان لبيت المقدس ولبطريرك المدينة بل ولسائر أهلها بعقد المعاهدة وتوثيق شروط الصلح، والملفت في قوله "في هذا المكان أعطى السلام" انه لم يقل (وأعطي مشتهى الأمم السلام)، أو غير ذلك من عبارات تفيد أنه عليه السلام بنفسه الذي يتولى تسليم بيت المقدس ونشر الإسلام فيه، لعلم الله أزلاً أن الذي سيتولى هذه المهمة هو واحد من أخلص خلصائه، وقد كان ذلك- بالفعل- لأمير المؤمنين عمر بمحضر ومشهد من أصحاب مشتهى الأمم صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه ورضي الله عنهم وأرضاهم .
وتحكي كتب التاريخ أنه لما أذل الله الروم وتكامل للمسلمين فتوح الشام واستقر أمرهم على فتح بيت المقدس وحاصر المسلمون أهله قرابة أربعة أشهر في أشد قتال، نظر أهل بيت المقدس إلى شدة الحصار ورأوا ما حل بهم ووقفوا بين يدي البطرك وقالوا: قد عظم الأمر ونريد منك أن تشرف على القوم وتسأل: ما الذي يريدون؟ فإن كان أمراً صعباً فتحنا الأبواب وخرجنا إليهم، فإما أن نقتل عن آخرنا أو نهزمهم عنا، فأجابهم البطرك إلى ذلك، وصعد في السور واجتمع القسيسون والرهبان حوله ونادى رجل: يا معشر الفرسان، عمدة دين النصرانية قد أقبل خاطبكم، فليدن منا أميركم، فقام أبو عبيدة يمشي ومعه جماعة من أصحاب رسول لله، فلما وقف بإزائهم قال: ما الذي تريدون؟ قال البطرك: إنكم لو أقمتم علينا عشرين سنة لم تصلوا إلى فتح بلدنا، وإنما يفتحها رجل ليس معكم، فقال أبو عبيدة: وما صفة من يفتح بلدكم؟ قال: لا نخبركم بصفته، ولكن قرأنا أن هذا البلد يفتحه صاحب لمحمد يعرف بالفاروق لا تأخذه في الله لومة لائم، ولسنا نرى صفته فيكم.
فلما سمع أبو عبيدة كلام البطرك تبسم وقال: فتحنا البلد ورب لكعبة، ثم أقبل على البطرك وقال: إن رأيت الرجل تعرفه، قال: نعم، وكيف لا أعرفه؟ قال أبو عبيدة: هو والله خليفتنا وصاحب نبينا، قال البطرك: فإذا كان الأمر على ما ذكرت فاحقن الدماء وابعث إلى صاحبك فإذا رأيناه وتبيّنا نعته فتحنا له البلد وأعطيناه الجزية، فلما بعث أبو عبيدة في طلبه وأقدم عليهم عمر بمرقعته ونظر إليه البطرك زعق وقال: هذا والله الذي صفته في كتبنا وخرج ومن معه يسألونه العهد.
وكان مما فاه به البطرك من قبل عندما أخبر بجيش المسلمين يقوده أبو عبيدة: ما هذه الضجة التي أسمع؟ قالوا: قد قدم أمير المسلمين ببقية المسلمين، فلما سمع ذلك تربّد وجهه وقال: إنا وجدنا في علمنا الذي ورثناه أن من يفتح الأرض هو الرجل الأحمر، صاحب نبيهم (محمد) فإن كان قدم عليكم فلا سبيل إلى قتاله، ولابد أن أشرف عليه وانظر إلى صفته فإن كان هو أجبته إلى ما يريد وإن كان غيره فلا بأس عليكم.. فلما رأى أبا عبيدة نظر إليه ملياً ثم قال: ليس هو الرجل فأبشروا وقاتلوا عن دينكم وحريمكم، ثم كان من ما حكيناه مما مر ذكره.
وليس ثمة ما يدل على هذا التحول والانتقال عندنا معاشر المسلمين أعظم من إمامته صلوات الله وسلامه عليه لجميع الأنبياء والمرسلين في المسجد الأقصى وذلك عندما حان وقت صلاة الفجر من صبيحة ليلة التتويج المباركة، وفى هذا يروي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الإيمان قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط، قال: فرفعه الله إلىَّ انظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلى فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلى أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلى أشبه الناس به صاحبكم- يعنى نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم .. الحديث) ، وفي رواية ابن مسعود عند مسلم: (وحانت الصلاة فأممتهم)، وفي مسند أحمد من حديث ابن عباس [2324]وإسناده صحيح، بلفظ (فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي فالتفت ثم التفت فإذا النبيون أجمعون يصلون معه)، وفي كيفية ذلك وهيئته أخرج الطبري عن أنس من طريق قتادة بلفظ (ثم أُتيت بدابة يقال لها البراق فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه منتهى طرفه فحُملت عليه ثم انطلقنا- يعني هو وجبريل- حتى أتينا إلى بيت المقدس فصليت فيه بالنبيين والمرسلين إماماً ثم عرج بي إلى السماء)، وفي رواية ثانية أوردها عنه من طريق شريك بن أبي نمر بلفظ (ثم ركب البراق فسار حتى أتي به إلى بيت المقدس فصلى فيه بالنبيين والمرسلين إماماً ثم عرج به)، وفي ثالثة أوردها أيضاً عنه من طريق عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة لكن بلفظ: (ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء فأمّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة)، وجاء في أخرى من طريق يزيد بن أبي مالك: (ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء فقدمني جبريل حتى أممتهم)، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط: (ثم أقيمت الصلاة فدافعوا حتى قدموا محمداً)، وقد ذكر ابن حجر في حديث الإسراء وباب المعراج 7/158، 164 وابن كثير في صدر تفسيره لسورة الإسراء بعض هذه الروايات، ومما أورده الأخير في شأن إمامته عليه السلام ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود من طريق قتادة التيمي وفيه: (ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى فنزلت فربطت الدابة في الحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها، ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، قال: ثم أُتيت بكأسين من عسل ولبن فشربت فضرب جبريل عليه السلام منكبي وقال أصبت الفطرة ورب الكعبة، قال: ثم أقيمت الصلاة فأممتهم ..) .
إنها الإشارة الواضحة إلى تحول المسار وإسلاس القيادة من قِبَل أصحاب الرسالات جميعاً بلا استثناء لإمامهم وإمام البشرية جمعاء صلوات الله عليه وسلامه، كما أنها الإشارة الواضحة إلى استحقاقه وأمته دون غيرهم إرث بيت المقدس ليعلم أهل الأرض جميعا أن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، وأن كتابه مهيمن على جميع الكتب، وأن إمامته إمامة لجميع أمم النبيين، وأن رسالته هي الرسالة العامة لسائر الخلق أجمعين، ويومئ ابن كثير 3/2 إلى هذا المعنى فيذكر أن الأنبياء "جمعوا له هناك كلهم فأمهم صلوات الله عليه، في محلتهم ودارهم فدل على أنه الإمام الأعظم والرئيس المقدم"، ويقول أبو عبد الله المنهاجي: يسر الله النبياء كلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم في بيت المقدس" .
ولعل فيما سبق ما تؤيده عبارة ابن القيم التي ذكر فيها ما نصه: "وقد قال الله في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب: (إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد أخوته)، وهم بني إسرائيل، وهذه بشارة بنبوة ابنه محمد الذي طلب فسطاطه وملك أمته في وسط بلاد بني إسرائيل وهي الشام التي هي مظهر ملكه" .
ومن النصوص الصريحة الدالة علي تحوّل الإمامة وإرث الملك والنبوة إلي محمد صلي الله عليه وسلم وأمته ما جاء في سفر التثنية32: 19-21 من التوراة السامرية بعد أن ذكر موسى من مساوئ بني إسرائيل ما تقشعر منه الأبدان وتشيب لهوله الولدان وتزول من مكره الجبال: "فينظر الله ويرفض من كيد خواصه وخصيصاته. ويقول: أحجب رضواني عنهم لأنظر ما آخرتهم، إذ جيل متقلب هم، بنون ليس أمين فيهم. هم أسخطوني بغير قادر، أكادوني بهبائهم، وأنا أغيرهم بغير قوم ، بشعب ساقط أكيدهم"، إذ المراد بالشعب الساقط هنا- حسب نظرة اليهود إليهم وعلى ما أفادته النسخة المترجمة عن العبرانية- الأميين الذين قال الله في شأنهم وفي شأن نبيهم: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.. الجمعة/2)،على أن أمية ذلك الشعب لا تتنافى بحال -على خلاف ما توحي به عبارة الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها- مع عظمته، وذلك طبقا لما جاء في كتب القوم من نحو ما ورد في سفر التكوين17: 20حيث قال الله لخليله إبراهيم: "وفي إسماعيل استجيب منك، هو ذا باركته، وأثمره، وأكثره جداً جداً، اثنا عشر رئيساً يولد وسأجعله شعبا عظيماً"، ونظيره في الإصحاح21: 18من نفس السفر من التوراة العبرانية.
والذي تجدر الإشارة إليه أنه ما إن تحمل هذا الشعب العظيم وذاك النسل المبارك من صلب إبراهيم عليه السلام، أمانة الدين وعبء المسئولية إلا وانساح في كل مكان من أرض الله يدك معاقل الشرك ويقوض برسالة التوحيد أركان الوثنية التي فشل أتباع الرسالات قبلها في القضاء عليها، وانطلق هذا الجيل الفريد لا يبالي ولا يتوانى عن تنفيذ ما نُدب إليه حتى تم على يديه إطفاء نار فارس وإجلاء الرومان عن المنطقة بأسرها، وحقق وعد الله في أقل من عشر سنين وأقام شريعته في المنطقة وما يليها في اقل من قرن من الزمان.