الحقيقة الرابعة:
تفضيل بنى إسرائيل كان مرده التمسك بعهد الله: نفيد مما سبق أن النصوص الدالة في آي الذكر الحكيم على تكريم بنى إسرائيل وتفضيلهم على عالمي زمانهم وتحقيق موعود الله لهم وجعلهم أو بعضاً منهم أئمة يهتدى بهم .. إنما جئ بها- على ما نطقت به آي التنزيل ونصوص الكتاب المقدس- في معرض الامتنان على بنى إسرائيل إبان التزامهم بما كان يأمرهم به الرب سبحانه، وفي غير أوقات انحرافهم أو إقامتهم على المعصية أو إعلانهم الكفر والتأبي على أحكام الله وأوامر أنبيائه .
كما جيء بها كذلك في معرض الحديث عن تميز الطائفة الظاهرة على الحق- والتي عادة ما تكون قليلة العدد- عن الكثرة المنحرفة، وذلك للإعلام- على ما يقتضيه العدل الإلهي والإنصاف- أنه بقدر غلبة الحق وانحسار الباطل والتمسك بعهد الله وميثاقه والإذعان لأوامره وأحكامه والكف عن معاصيه، بقدر ما يكون التفضيل والتمكين.
ومن الآيات التي يتراءى فيها جانب الاصطفاء وإسباغ النعم في ضوء ما ذكرنا، قول الله تعالى: (يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين.. البقرة/47)، وقوله: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى.. البقرة/57)، وقوله: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين.. المائدة/20)، وقوله: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.. السجدة/24)، وقوله: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين.. الجاثية/16).
ومن مظاهر تكريم الله لهم على ما ذكر المفسرون أن ناداهم باسم أبيهم الذي هو منشأ فخارهم وأصل عزهم، وأكثر فيهم الأنبياء والملوك وأعطاهم من الفضل والزيادة ما لم يعط غيرهم من شعوب الأرض حتى الأمم ذات الحضارات كالمصريين وسكان الأراضي المقدسة، ومن مظاهره أن جاوز بهم البحر وأخرجهم من مصر بعد أن أنقذهم من بطش فرعون وأشياعه العتاة، وما ذلك كله إلا لنفس الأسباب التي سبق ذكرها.
كما عمّهم سبحانه برحمته وبدعاء صالحيهم حتى في تيههم الذي استمر أربعين سنة والذي كان بين مصر والشام، وذلك عندما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم إثر أمر الله لهم بذلك بناءاً على رغبتهم في دخول الأرض المقدسة، بل وعقب قولهم لموسى بكل جرأة: (إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون.. المائدة/24) .. وعندما شكوا إلى موسى ما أصابهم في الصحراء من حر شديد ومن قلة الطعام والشراب، أرسل الله إليهم الغمام يظللهم، وأنزل عليهم المنّ الذي يشبه العسل فكانوا يمزجونه بالماء ويشربونه، وكانت السُّمانى تأتيهم فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه إلى الغد، وأوحى الله إلى نبيه موسى أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائلهم، ومع كل هذه النعم التي تستوجب الشكر والامتثال، فقد قابلوها بالنكران واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعلى الرغم من كل هذا فقد فتح لهم سبحانه باب توبته لهم ووعدهم إن هم دخلوا الأرض المقدسة سجداً طالبين المغفرة بأن يحط عنهم خطاياهم، إلا أنهم ظلوا على ما هم عليه من عدم مراعاة تعاليم الرب ووصاياه، بل استهزءوا بها، وبدل أن يدخلوا باب بيت المقدس منحنين خاضعين دخلوه على أستاههم زاحفين، وبدل أن يقولوا (حطة) أي (حط عنا خطايانا)، قالوا: (حنطة)، وارتكبوا من المعاصي على إثر ذلك ما حجب عنهم تمكينه تعالى من بيت المقدس، وكان ما أخبر الله به في قوله: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين* فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون .. البقرة/58، 59).
وفي النظم الكريم ما يشعر ويومئ من طرف خفي إلى تمايز القلة المتمسكة بأوامر الرب ووصاياه عن الذين ظلموا أنفسهم وبدلوا (قولاً غير الذي قيل لهم)، فقد قرر أهل التأويل أنه لم يدخل الأرض المقدسة المعبر عنها في الآية الكريمة بـ (القرية) من بعد موسى سوى قلة تمثلت- مع النواشئ من ذرياتهم- في يوشع ورجلين أنعم الله عليهما بالإيمان به تعالى والخوف منه، ولم يدخلها أحد ممن قال: (لن ندخلها أبداً)، بل لم يكتف سبحانه بأن حرم عليهم دخولها حتى أهلكهم بالطاعون الذي غدا بسبعين ألف منهم وقيل بأربعة وعشرين ألفاً فجعلهم أثراً بعد عين.
وهنا نبصر من خلال شواهد القرآن الأخرى المتعلقة بهذه الواقعة وكذا شواهد السنة الصحيحة عدل الله المطلق، حيث حرّم سبحانه دخول الأرض المقدسة على الذين نكصوا على أعقابهم على الرغم من أنهم كانوا في صحبة موسى وهارون عليهما السلام وعلى الرغم من دعوة هذين النبيين المباركين لهم ونصحهما إياهم بل وتحايلهما عليهم، في حين مكن ليوشع بن نون الذي قام بالأمر بعد كليم الله موسى عليه السلام فخرج ومعه من تبقى من بنى إسرائيل ممن تشجعوا لدخولها ولم يتفوهوا بما تفوه به سابقوهم، فقصد بهم بيت المقدس، بل وأحدث الله له ولهم من الكرامات ما أعانهم على دخولها في الموعد الذي أرادوه، حتى أن يوشع لما حاصرها بمن معه، وهم بافتتاحها ودنت الشمس للغروب، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، نادى الشمس وقال: إنك مأمورة وإني مأمور فوقفت حتى افتتحها ووجد فيها من الأموال ما لم يُر مثله قط .. وهكذا.
الأمر الذي يعني التنبيه علي أن سنة الله في التفضيل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل لكونه سبحانه لا يفضل بعد الإعذار إلا الفئة المؤمنة الصابرة، إذ حاشاه- جلت قدرته وتعالت حكمته- أن يساوي بين من امتثل لأمره ومن عدل عنه، أو أن يحابى أحداً على حساب أحد، وإنما يتأتى ذلك ممن اختلت عقولهم وموازين العدل عندهم من البشر.
وعليه فدعاوى السابقين من بنى إسرائيل أنهم أبناء الله وأحباؤه، واللاحقين منهم بأنهم شعب الله المختار على ما هم عليه هؤلاء وأولئك من كفر ومعصية، دعاوى زائفة ولا أساس لها في ميزان العدل الإلهي، لذا يقول سبحانه في دحضها: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير .. المائدة/18).
ومصداق ذلك فيما يدينون به ما جاء في سفر التثنية7: 6، 9-11 "لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض .. فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل. والمجازي الذين يبغضونه بوجوههم ليهلكهم، ولا يمهل من يبغضه، بوجهه يجازيه. فاحفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أنا أوصيك اليوم لتعملها".
وفي الإصحاح الثامن من نفس السفر 1- 3 جاء في خطاب الله لموسى ولمن اعتزم صحبته إلى أرض الميعاد ما نصه: "جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم تحفظون لتعملوها لكي تحيوا وتكثروا وتمتلكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم. وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر لكي يُذِلّكَ ويجرّبك ليعرف ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا . فأذّلّكَ وأجاعك وأطعمك المنّ الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك لكي يعلّمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان".
ولما كان ما كان من أمر نكوصهم "قال له الرب- يعني لموسى- هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلاً لنسلك أعطيها، قد أريتك إياها بعينك ولكنك إلى هناك لا تعبُره. فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب" تثنية 34: 4-5، أما من كانوا في صحبته عليه السلام فقد كان السبب في حرمانهم دخولها "أن بني إسرائيل ساروا أربعين سنة في القفر حتى فني جميع الشعب رجال الحرب الخارجين من مصر الذين لم يسمعوا لقول الرب الذي حلف الرب لهم إنه لا يريهم الأرض التي حلف الرب لآبائهم أن يعطينا إياها، الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. وأما بنوهم فأقامهم مكانهم"سفر يشوع 5: 6-7.
وعن مجازاته سبحانه لمن استنهضهم يوشع بن نون بما يستحقونه من موعوده، جاء في سفر يشوع 21: 43-45 "فأعطى الرب إسرائيل جميع الأرض التي أقسم أن يعطيها لآبائهم فامتلكوها وسكنوا بها. فأراحهم الرب حواليهم حسب كل ما أقسم لآبائهم ولم يقف قدامهم رجل من جميع أعدائهم بل دفع الرب جميع أعدائهم بأيديهم. لم تسقط كلمة من جميع الكلام الصالح الذي كلم به الرب بيت إسرائيل بل الكل صار"، وإنما كان لهم ما أرادوا- فيما يشبه النحو على آبائهم باللائمة أن خالفوا ما أمر به موسى عليه السلام- لأن الذين كانوا مع يشوع "أجابوا يشوع قائلين، كل ما أمرتنا به نعمله وحيثما ترسلنا نذهب. حسب كل ما سمعنا لموسى نسمع لك، إنما الرب إلهك يكون معك كما كان مع موسى. كل إنسان يعصي قولك ولا يسمع كلامك في كل ما تأمره به يقتل"، كذا هو نص يشوع 1: 16-18.