الشريعة والعقيدة.. هل بينهما فرق ؟

يظن كثير من المسلمين وبعض المفكرين أن هناك فرقا بين الشريعة والعقيدة ويبنون على ذلك عددا من الأمور ولكن الحقيقة التي يجب ذكرها هنا أن التفريق بين الشريعة والعقيدة إنما هو تفريق نظري فني طارئ، جرت إليه ضرورة التأليف والتصنيف، والتبحر بالعلوم، والتخصص فيها، والتشقيق لفروعها.
فلا نجد في نصوص القرآن والسنة ، ولا في أقوال الصحابة وأئمة الدين في القرون الثلاثة الفاضلة هذا التفريق المتكلف الذي اضطر إليه المسلمون فيما بعد ..حينما كثر الافتراق، وتشعبت العلوم، وكثر التصنيف، وتعددت المناهج والمشارب والأساليب.

فلو تأملنا مصطلحات السلف في القرون الثلاثة الأولى لوجدنا ملامح التفريق بين الاصطلاحين قليلة جداً ، وفي حدود إطلاقات بعض النصوص ودلالاتها ؛ إذ كانوا يطلقون على العقيدة والشريعة مسمى واحداً بألفاظ متعددة ، حسب المقام ومقتضى العلم أو العمل.. كالإسلام والإيمان، والسنة والشرع، والهدى والدين.

لكن ظهرت في الآونة الأخيرة نغمة عجيبة مريبة، تدعي أن المهم في الدين هو العقيدة والإيمان ، أما الشرائع والأحكام فهي في المقام الثاني، أو أنها مما يجوز الاختلاف عليه جملة وتفصيلاً.
وهذه دعوى الجاهلية وحمار الزنادقة قديماً وحديثاً، وإنما يراد بها التنصل والخروج من أحكام الإسلام في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم وسائر أمور الحياة ، ووضع مسائل التحاكم (والحكم بما أنزل الله) وإجراء الحدود والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحكام الحلال والحرام والحجاب والاختلاط وغيرها من المسائل القابلة – بزعمهم- للنقاش، مادام باب الاجتهاد مفتوحاً.
وهذه الشنشنة لا نزال نسمعها من أخزم لم نسمعها من أهل الفقه في الدين، والفضل والصلاح، إنما ينادي بها أصحاب الشهوات، والشبهات، والذين في قلوبهم مرض، من العلمانيين والحداثيين، والعقلانيين ، الذين يريدون أن يأخذوا من الدين ما يحلو لهم ويهوونه ويحقق أغراضهم ويتركوا ما لا يهوونه.
وقد نسمع هذه الدعوى ممن ينتسبون للدعوة إلى الإسلام الذين انحرفوا عن مناهج السلف ،وخالفوا السنة والجماعة .
وأرى أن هؤلاء أخطر ؛لأنه يلتبس أمرهم على الناس . نسأل الله العافية.

تلازم الشريعة والعقيدة:

وكل من لفظي (العقيدة) و(الشريعة) عند الإطلاق يستلزم الآخر من وجه ويتضمنه من وجه آخر، فالعقيدة إذا أطلقت فإنها تشمل وتتضمن أصول الشريعة وأحكامها القطعية ، وتستلزم العمل بالشريعة في الجملة ؛ فالعقيدة إذن تتضمن وتستلزم الشريعة عند التحقيق ، كما أن الشريعة إذا أطلقت فإنها تتضمن الأمور الإيمانية التصديقية ،وأصول التشريع وأحكامه القطعية، وهي العقيدة كما قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك) [سورة الشورى، الآية:13].
ومعلوم أن مما شرعه لنا من الدين وقد وصى به نوحاً إنما هو التوحيد والفضائل وأصول الشرائع، المتضمنة لمصالح العباد، في الدنيا والآخرة [راجع تفسير الشوكاني (فتح القدير) 4/529].
فالشريعة متضمنة للعقيدة من وجه، ومستلزمة لها من وجه آخر، فلا ينفك أحدهما عن الآخر.
ويتبين هذا (وهو التلازم بين العقيدة والشريعة) من وجه آخر، وهو تلازم الجانب التصديقي من مفهوم الإيمان (وهو يرادف العقيدة) مع الجانب العملي من مفهوم الإيمان وهو العمل الصالح (وهو يرادف الشريعة) ؛أي العمل في أحكام الشرع التطبيقية.
وعليه فكل من العقيدة والشريعة يشملها مسمى الإيمان إذا أطلق ؛ ذلك أن الإيمان إذا أطلق مفرداً شمل العقائد والأعمال ، كما قال – تعالى-: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) [سورة الحجرات، الآية: 15]، والجهاد عمل.
وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ..) إلى قوله: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) [سورة الأنفال، الآيتان: 2- 4] ، فجعل إقامة الصلاة والنفقة من الإيمان وهي عمل.
وكما قال - صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .. الحديث" [متفق عليه].
وقول لا إله إلا الله هنا تعني الاعتقاد الذي يدل عليه النطق باللسان وهو عمل ، وإماطة الأذى عمل من أعمال الإيمان.
وقال - صلى الله عليه وسلم- في حديث وفد عبد القيس: "وآمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، أو خمساً من المغنم" [متفق عليه].
فقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الإيمان بالأعمال ، وهي الشرائع المتمثلة بأركان الإسلام وفرائض الدين، فالأعمال لا تنفك عن الإيمان والاعتقاد.
وإذا ذكر الإيمان مقروناً أو معطوفاً على العمل الصالح خص الأمور الاعتقادية ،مثل قوله –تعالى-: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) [سورة العصر، الآية:3].
فكذلك مسمى العقيدة إذا أفرد شمل الشريعة واستلزمها، وإذا ذكر معها خص الأمور الإيمانية التصديقية الاعتقادية ، ومثله مسمى الشريعة إذا أفرد شمل العقيدة واستلزمها وإذا ذكر مع العقيدة خص الأحكام العملية والقولية [انظر كتاب الإيمان –لابن تيمية 3/27].
وإذا علمنا أن الشريعة والعقيدة متلازمان علماً وعملاً ، وأن كلاً منهما يعني الآخر عند الإطلاق وينفصلان عند التقييد بالمفهوم الاصطلاحي الدقيق، مع توقف صحة أحدهما على الآخر.
فإن هذا التلازم وأثر كل منهما في تحقيق الآخر يقتضي أن من أخذ بالعقيدة ولم يعمل بالشريعة، أو عمل بالشريعة ولم يأخذ بالعقيدة خرج من الإسلام.
ويتبين ذلك أيضاً من وجه ثالث هو:
أن العقيدة تعني الإيمان والشريعة تعني الإسلام، ومن المعلوم أن الدين يشمل الإسلام والإيمان معاً كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعلم أن الإسلام والإيمان يجتمع فيهما الدين كله" [كتاب الإيمان ص3].
فعلى هذا: إذا اجتمع اسما الإيمان والإسلام في لفظ واحد دل الأول على الأعمال القلبية (العقيدة) والثاني على أعمال الجوارح.. الأعمال الظاهرة (الشريعة) ، ومن مجموعهما يكون الدين.

وإذا أفرد كل منهما اشتمل على الأمرين، فإذا جاءت كلمة (الإسلام) مفردة تضمنت بالضرورة الإيمان، وإذا جاءت كلمة (الإيمان) مفردة تضمنت بالضرورة الإسلام.
فالإسلام لا يصح بدون الإيمان، ولا الإيمان يصح بدون الإسلام، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم، الدين في الإسلام والإيمان والإحسان في حديث جبريل المشهور [رواه مسلم] فقال بعده: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم"
ومعلوم أن الإسلام العمل الظاهر والإيمان والإحسان هما من عمل القلوب ، وقد سمى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك كله (الدين).
قال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: "ومَثَل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا يكون ذو جسم حي لا قلب له، ولا ذو قلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان وهما في الحكم والمعنى متصلان، ومثلهما أيضاً مثل حبة لها ظاهر وباطن وهي واحدة، لا يقال حبتان لتفاوت صفتهما، فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام وهو من أعمال القلوب" [عن كتاب الإيمان لابن تيمية ص283].
وعليه: فإن التفريق بين الشريعة والعقيدة لا يصح شرعاً.


مركز ثوابتنا