نظرات في سورة النور(2)



الدرس العاشر :
مشهد المطر والسحاب:
في قوله تعالي : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)}. وهذا الذى حكاه القرآن من سوق الله للسحب ثم تجميعها ، ثم تحويلها إلى قطع ضخمة متراكمة متكاثفة كقطع الجبال ، يراه الراكب للطائرات بوضوح وتسليم بقدرة الله ، الذى أحسن كل شىء خلقه . ثم ختم الله الآية الكريمة بقوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار } ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض , على طريقة التناسق في التصوير.
الدرس الحادي عشر :
تقليب الليل والنهار:
في قوله تعالي : { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}. دليل زمنى يحسه الناس ويشاهدونه فى حياتهم وهو آية " عظيمة " لأولى الأبصار " التى تبصر قدرة الله - تعالى - وتعتبر بها ، فتخلص له العبادة والطاعة.
الدرس الثاني عشر :
إعجاز الله في الكون وفي مخلوقاته:
في قوله تعالي : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) } . وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة , حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء , قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا , وهو الماء , وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء . ثم تنوعت الأنواع , وتفرعت الأجناس . .
الدرس الثالث عشر :
التقابل بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين والتمكين للمؤمنين:
بعد الحديث عن الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . والحديث عن الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم , وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض .
فصفات المنافقين:
* في قوله تعالي : (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)), الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون . فهم يظهرون الإسلام , و يقولون بألسنتهم فقط : آمنا بالله وبالرسول ، وأطعنا الله والرسول فى كل أمر أو نهى .
أنهم كاذبون فى دعواهم الإيمان والطاعة فقال : { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } , ولأنهم لو كانوا يؤمنون حقا . لما أعرضوا عن أحكام الله ، وعن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
*في قوله تعالي : (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)) ويدعون الإيمان فيخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] على شريعة الله التي جاء بها , وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل . ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] وفي الرضى بحكمه , والطمأنينة إليه . فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله , راضين خاضعين , لأنهم واثقون أنهم سيقضي لهم بحقهم , وفق شريعة الله , التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق .
*في قوله تعالي : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)) يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة ثلاثة تثبت مرض قلوبهم , وتتعجب من ريبتهم , وتستنكر تصرفهم الغريب : (أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ?). .
فالسؤال الأول : للإثبات (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ), فمرض القلب جدير بأن ينشى مثل هذا الأثر . وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة . إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها , فلا تتذوق حقيقة الإيمان , ولا تسير على نهجه القويم .
والسؤال الثاني: للتعجب (أَمِ ارْتَابُوا), فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان ? هل هم يشكون في مجيئه من عند الله ? أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل ? على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين !
والسؤال الثالث : للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ), فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان . فالله خالق الجميع ورب الجميع . فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه ?
* ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم في قوله تعالي : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) , فالمؤمنون حقا لهم أدب غير هذا مع الله ورسوله . ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ; هو القول الذي يليق بالمؤمنين ; وينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف . السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى ; النابعان من التسليم المطلق لله , واهب الحياة , المتصرف فيها كيف يشاء ; ومن الاطمئنان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم . فالله الذي خلق أعلم بمن خلق .
فجزاء المؤمنون :
*(هُمُ الْمُفْلِحُونَ) :المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بعلمه وعدله ; فلا بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بشر مثلهم , قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلا . . والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد , لا عوج فيه ولا التواء , مطمئنون إلى هذا المنهج , ماضون فيه لا يتخبطون , فلا تتوزع طاقاتهم , ولا يمزقهم الهوى كل ممزق , ولا تقودهم الشهوات والأهواء . والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم .
*و(هُمُ الْفَائِزُونَ) :الفائزون , الناجون في دنياهم وأخراهم . وعد الله ولن يخلف الله وعده . وهم للفوز أهل , ولديهم أسبابه من واقع حياتهم . فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة , وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة . وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج , وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه , فلا ينحرفون ولا يلتفتون .
* وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين , وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان , وما هم بمؤمنين , بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين: في قوله تعالي : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)) , لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها , مفروغ منها , لا تحتاج إلى حلف أو توكيد !, ويعقب على التهكم الساخر بقوله: (إن الله خبير بما تعملون). . فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد , وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون ! لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة . الطاعة الحقيقية . لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة ! (قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول). . (فإن تولوا)وتعرضوا , أو تنافقوا ولا تنفذوا (فإنما عليه ما حمل)من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه (وعليكم ما حملتم)وهو أن تطيعوا وتخلصوا . وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه: (وإن تطيعوه تهتدوا)إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح . (وما على الرسول إلا البلاغ المبين)فليس مسئولا عن إيمانكم , وليس مقصرا إذا أنتم توليتم . إنما أنتم المسئولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول
الدرس الرابع عشر :
وعد المؤمنين بالاستخلاف بالأرض و بتمكين الدين وانتصاره :
في قوله تعالي : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) ) ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [ صلي الله عليه وسلم ] أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . . ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ?
*إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله : حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ; وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ; لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ; وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة , لا يبقى معها هوى في النفس , ولا شهوة في القلب , ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] من عند الله . فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله , بخواطر نفسه , وخلجات قلبه . وأشواق روحه , وميول فطرته , وحركات جسمه , ولفتات جوارحه , وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا)والشرك مداخل وألوان , والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله . ذلك الإيمان منهج حياة كامل , يتضمن كل ما أمر الله به , ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب , وإعداد العدة , والأخذ بالوسائل , والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض , أمانة الاستخلاف, (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) الخارجون على شرط الله , ووعد الله , وعهد الله.
*إن حقيقة الإستخلاف : ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم , إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض , اللائق بخليقة أكرمها الله . إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح , لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة , لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري , لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان , وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ; ويقرروا العدل الذي أراده الله ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض , وينشرون فيها البغي والجور , وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه , أو مبتلى بهم غيرهم , ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
*آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم). . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب , كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض , وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح , ويأمر بالعدل , ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض , والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة , ومن رصيد , ومن طاقة , مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله
* ويعقب في قوله تعالي : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) , فهذه هي العدة . . الاتصال بالله , وتقويم القلب بإقامة الصلاة . والاستعلاء على الشح , وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة . وطاعة الرسول والرضى بحكمه , وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة , وتحقيق النهج الذي أراده للحياة: (لعلكم ترحمون)في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال , وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال .
*وبعقب في قوله تعالي : (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)) فإذا استقمتم على النهج , فلا عليكم من قوة الكافرين . فما هم بمعجزين في الأرض , وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق . وأنتم أقوياء بإيمانكم , أقوياء بنظامكم , أقوياء بعدتكم التي تستطيعون . وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية . ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب .
الدرس الخامس عشر :
آداب الإستئذان داخل البيوت: لقد سبقت في السورة أحكام الاستئذان على البيوت . وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت .
في قوله تعالي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) .
*في تشريع هذا الأدب ودقة تنظيمه ما يدل على عظمة هذا الدين الذي اعتنى أشد العناية بخصوصية الفرد المسلم،ولنا أن نتخيل مجتمع خلا من هذا الأدب كيف تنتهك فيه الخصوصية الفردية ويُتكشف فيه على الأعراض،وأدب الاستئذان ليس مجرد أدب يلتزم به الفرد بل هو دين يتعبد الله به العبد المؤمن ويعلم أنه إن لم يتقيد به فإن عليه إثم ترك هذا الأدب،بل أن الإسلام يهدر عين من تلصص بالنظر إلى عورات أهل بيت وهم لا يعلمون أخرج البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ،وعند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ،بل وورد ماهو أصرح من ذلك عند الإمام أحمد وابن أبي عاصم والنسائي وصححه ابن حبان البيهقي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ .
*أسباب نزول الآية : ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله تعالى: { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ . . . } روايات منها :
1- أن امرأة يقال لها أسماء بنت أبى مرثد ، دخل عليها غلام كبير لها ، فى وقت كرهت دخوله فيه ، فأتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا فى حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
2- ومنها ما روى من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث فى وقت الظهيرة غلاما من الأنصار يقال له مدلج ، إلى عمر بن الخطاب ، فدق الغلام الباب على عمر - وكان نائما - فاستيقظ ، وجلس فانكشف منه شىء فقال عمر : لوددت أن الله - تعالى - نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا من الدخول علينا فى هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق عمر مع الغلام إلى النبى صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا لله - تعالى - .
* إن الإسلام منهاج حياة كامل ; فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها , وفي كل علاقاتها وارتباطاتها , وفي كل حركاتها وسكناتها . ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة , كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة ; وينسق بينها جميعا , ويتجه بها إلى الله في النهاية .
*بيان الأحكام في هذه الآية :
- يا من آمنتم بالله حق الإيمان من الرجال ، والنساء ، عليكم أن تمنعوا مواليكم وخدمكم وصبيانكم الذين لم يبلغوا سن البلوغ ، من الدخول عليكم فى مضاجعكم(حجرة نومكم) بغير إذن فى أوقات ثلاثة في اليوم والليلة، خشية أن يطلعوا منكم على ما لا يصح الاطلاع عليه .
- فالخدم, والأطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان . إلا في ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة , فهم يستأذنون فيها . هذه الأوقات هي:
1- الوقت قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أوأنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج.
2- ووقت الظهيرة عند القيلولة , حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة .
3- وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل . .
*وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم , وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم , كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم . وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية , مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية , ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة ! وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر . بينما يقرر النفسيون اليوم - بعد تقدم العلوم النفسية - أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها ; وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها .
*والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب ; وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب , سليمة الصدور , مهذبة المشاعر , طاهرة القلوب , نظيفة التصورات .
*ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات . ولا يجعل استئذان الخدم و الصغار في كل حين منعا للحرج . فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة: (طوافون عليكم بعضكم على بعض). . وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات , وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار .
*وفى غير هذه الأوقات فلا حرج علي الصغار والخدم أن يدخلوا بدون استئذان لأنهم تكثر حاجتهم فى التردد عليكم ، وأنتم كذلك لا غنى لكم عنهم فأنتم وهم يطوف بعضكم على بعض لقضاء المصالح فى كثير من الأوقات .
وبذلك يجمع الإسلام فى تعاليمه بين التستر والاحتشام والتأدب بآدابه القويمة ، وبين السماحة وإزالة الحرج والمشقة .
و حين يدرك الصغار سن البلوغ , فإنهم يدخلون في حكم الأجانب , الذين يجب أن يستأذنوا في كل وقت , حسب النص العام , الذي مضت به آية الاستئذان .
*والمولي جل وعلا يعقب على الآية بقوله: (والله عليم حكيم)لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر , وما يصلحها من الآداب ; ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب .
الدرس السادس عشر:
الرخصة للقواعد من النساء:
ولقد سبق كذلك الأمر من الله بإخفاء زينة النساء منعا لإثارة الفتن والشهوات . فعاد هنا يستثني من النساء القواعد في قوله تعالي: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)), والنساء العجائز اللاتى قعدن عن الولد أو عن الحيض , أو لكبر سنهم، ولا يطمعن فى الزواج لكبرهن ، فليس على هؤلاء النساء حرج أن ينزعن عنهن ثيابهن الظاهرة ، والتي لا يفضى نزعها إلى كشف عورة ، أو إظهار زينة أمر الله تعالى بسترها . وقالوا : سميت المرأة العجوز بذلك ، لأنها تكثر القعود لكبر سنها .
* فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية , على ألا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن زينة . وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة . وسمي هذا استعفافا . أي طلبا للعفة وإيثارا لها , لما بين التبرج والفتنة من صلة ; وبين التحجب والعفة من صلة . . وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية , والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس .
*وختمت الآية قسابقتها بقوله تعالي (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع ويعلم , ويطلع على ما يقوله اللسان , وما يوسوس في الجنان . والأمر هنا أمر نية وحساسية في الضمير .
الدرس السابع عشر :
تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء:
في قوله تعالي : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61)) .
* ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما عن ابن عباس أنه قال : لما أنزل الله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل . . } تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والعمى والعرج ، وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال والباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة ، والمريض يضعف عن التناول ولا يستوفى من الطعام حقه ، فأنزل الله هذه الآية
, لترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج , وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه . وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج . وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به . استنادا إلى القواعد العامة في أنه " لا ضرر ولا ضرار " وإلى أنه " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس " .
* ولآن الآية آية تشريع , فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي , والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض . كما نلمح فيها ترتيب القرابات . فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم . بل تقول (من بيوتكم)فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج , فبيت الابن بيت لأبيه , وبيت الزوج بيت لزوجته , وتليها بيوت الآباء , فبيوت الأمهات . فبيوت الإخوة , فبيوت الأخوات . فبيوت الأعمام , فبيوت العمات , فبيوت الأخوال , فبيوت الخالات . . ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه . ويلحق بها بيوت الأصدقاء . ليلحق صلتهم بصلة القرابة . عند عدم التأذي والضرر . فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان .
*فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها , بين الحالة التي يجوز عليها الأكل: (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا)فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد . فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام ! فرفع الله هذا الحرج المتكلف , ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد , وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات .
* وإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة). . وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية . فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه . والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله . تحمل ذلك الروح , وتفوح بذلك العطر . وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها
* وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون). . وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير .
الدرس الثامن عشر :
تنظيم العلاقات بين المسلمين والآداب في مجلس الرسول :
في قوله تعالي : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)) .
* وينتقل من تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء , إلى تنظيمها بين الأسرة الكبيرة . . أسرة المسلمين . . ورئيسها وقائدها محمد رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول.
* روى ابن إسحاق فى سبب نزول هذه الآيات ما ملخصه : أنه لما كان تجمع قريش وغطفان فى غزوة الأحزاب ، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم خندقا حول المدينة وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب فيه ودأبوا ، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين فى عملهم ذلك ، رجال من المنافقين ، وجعلوا يُوَرُّون - أى يستترون - بالضعيف من العمل ، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن . وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التى لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه فى اللحوق لحاجته ، فيأذن له ، فإذا قضى حاجته ، رجع إلى ما كان فيه من العمل رغبة فى الخير واحتسابا له . فأنزل الله هذه الآيات فى المؤمنين وفى المنافقين .
*و تتضمن هذه الآيات ,الآداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها . هذه الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها . ثم تستقر في حياتها فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا . وإلا فهي الفوضى التي لا حدود لها: ) إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله), لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم ; ولا يطيعون الله ورسوله .
* والأمر الجامع الأمر الهام الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه , لرأى أو حرب أو عمل من الأعمال العامة . فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم . كي لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام .
وهؤلاء الذين يؤمنون هذا الإيمان , ويلتزمون هذا الأدب , لا يستأذنون إلا وهم مضطرون ; فلهم من إيمانهم ومن أدبهم عاصم ألا يتخلوا عن الأمر الجامع الذي يشغل بال الجماعة , ويستدعي تجمعها له . . *والقرآن يدع الرأي في الإذن أو عدمه للرسول صلي الله عليه وسلم رئيس الجماعة . بعد أن يبيح له حرية الإذن: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم). . [ وكان قد عاتبه على الإذن للمنافقين من قبل فقال:(عفا الله عنك ! لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)] . . يدع له الرأي فإن شاء أذن , وإن شاء لم يأذن , فيرفع الحرج عن عدم الإذن .
*وقد تكون هناك ضرورة ملحة . ويستبقي حرية التقدير لقائد الجماعة ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في الانصراف . ويترك له الكلمة الأخيرة في هذه المسألة التنظيمية يدبرها بما يراه, ومع هذا يشير إلى أن مغالبة الضرورة , وعدم الانصراف هو الأولى ; وأن الاستئذان والذهاب فيهما تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي [صلي الله عليه وسلم] للمعتذرين: (واستغفر لهم الله . إن الله غفور رحيم). . وبذلك يقيد ضمير المؤمن . فلا يستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به إلى الاستئذان .
* ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول [صلي الله عليه وسلم] عند الاستئذان , وفي كل الأحوال . فلا يدعى باسمه:يا محمد . أو كنيته:يا أبا القاسم . كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا . إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه:يا نبي الله . يا رسول الله: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا), فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله [صلي الله عليه وسلم] حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه . وهي لفتة ضرورية . فلا بد للمربي من وقار , ولا بد للقائد من هيبة .
* ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن , يلوذ بعضهم ببعض , ويتدارى بعضهم ببعض , فعين الله عليهم , وإن كانت عين الرسول لا تراهم: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا),وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس ; ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة , وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس .
*ويحذر كل الذين يخالفون عن أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وإنه لتحذير مرهوب , وتهديد رعيب . . فليحذر الذين يخالفون عن أمره , ويتبعون نهجا غير نهجه , ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة . ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس , وتختل فيها الموازين , وينتكث فيها النظام , فيختلط الحق بالباطل , والطيب بالخبيث , وتفسد أمور الجماعة وحياتها ; فلا يأمن على نفسه أحد , ولا يقف عند حده أحد , ولا يتميز فيها خير من شر . . وهي فترة شقاء للجميع: (أو يصيبهم عذاب أليم)في الدنيا أو في الآخرة . جزاء المخالفة عن أمر الله , ونهجه الذي ارتضاه للحياة . ويختم هذا التحذير , ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن الله مطلع عليها , رقيب على عملها , عالم بما تنطوي عليه وتخفيه .


الدرس التاسع عشر :

ختام السورة :
بقوله تعالي : (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)) .
وهكذا تختم السورة بتعليق القلوب والأبصار بالله ; وتذكيرها بخشيته وتقواه . فهذا هو الضمان الأخير . وهذا هو الحارس لتلك الأوامر والنواهي , وهذه الأخلاق والآداب , التي فرضها الله في هذه السورة وجعلها كلها سواء . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- تفسير إبن كثير.
2- تفسير القرطبي .
3- تفسير الظلال لسيد قطب.
4- التفسير الميسّر مجمع الملك فهد.
5- تفسير الوسيط لسيد طنطاوي.
6- تفسير الجلالين (المحلَّى و السيوطي ) .