حالة الغضب القبطي على جمال أسعد لا يعرف جذورها الكثيرون. لايعرفون أسباب خلافه مع البابا ولا لماذا تتخذ الكنيسة منه هذا الموقف الحاد العنيد، وهو ما جعلني أفتش في أوراق جمال أسعد القديمة. فقبل عشر سنوات تقريبا أصدر أسعد كتابه "إني أعترف- كواليس الكنيسة والأحزاب والإخوان المسلمين". سجل فيها مذكراته في السياسة والصحافة. في هذا الكتاب الذي صدر عن دار الخيال ونَفِدَتْطبعاته الأولي كتب جمال أسعد فصلا مطولا عن علاقته بالبابا شنودة: من الصداقةالحميمية والقرب الشديد إلي الصدام والعداء المطلق. كان عنوان الفصل موحيا ودالا: "قصتي مع البابا من البداية إلى النهاية". فأسعد يقر بالفعل أن علاقته بالبابا انتهت، لكنه لا ينسى تسجيل هدفه من كتابة مذكراته. الحكاية تحكي لنا لماذا يحظى جمال أسعد بكل هذه الكراهية وكل هذا العنف في الاعتراض على تعيينه في مجلسالشعب. وهذه فصول ما جرى.
التقى جمال أسعد البابا شنودة عندما ذهب إليه في الكاتدرائية الكبرى بالعباسية بصحبة القمص ميخائيل متى، الذي كان أستاذا للبابا شنودة ولغيره من الأساقفة. يقول أسعد: "ذات مرة ذهبت مجموعة من شباب القوصية مع القمص ميخائيل، فاستقبلهم الأنبا شنودة أسقف التعليم وقتها. وكان يقدم لهم الفاكهة بنفسه ويذيب السكر في الشاي بيده حين كان يتصف فيتلك المرحلة بالشخصية المتواضعة جدا التي تمارس التقشف إلى أبعد الحدود حتى أنه عندما كان يصوم كان لا يأكل الفول المدمس، حيث إنه يحب الفول. وكان يعتبر الفول الذييحبه عندما يأكله فإنه يمارس إحدى شهوات النفس رغم أن الفول يعتبر من الأكل الصائم لأنه نباتي. ويسجل جمال أسعد سمة أخرى من سمات البابا، ففي هذه الفترة لم يكنيحب أو يَقْبَل أن يقبّل أحد يده، وهي عادة يفعلها أغلب
الأقباط
كنوع من التكريم للكهنة من وجهة نظرهم. فكان هو لا يقبل تلك العادات، وكان يسحب يدهسريعا من يد أي شخص يريد تقبيل يده. كان الأنبا شنودة، كما يقول جمال أسعد، "في ذلك الوقت غاية في التواضع والروحانية، شديد التقشف مملوءا بالمحبة الخالصةالمستعدة للبذل من أجل الآخرين. وكان بذلك النموذج المفضل للشباب حتى أنهم كانوايلتفون حوله ويعشقونه. ويظهر هذا بشدة في لقائه الأسبوعي الذي كان يعقده كل يومجمعة داخل البطريركية بالعباسية، وكان يقبل على هذا الاجتماع أعداد غفيرة منالشباب حتى إن البعض كانوا يطلقون على محطة الأتوبيس القريبة من البطريركيةبالعباسية اسم "محطة الأنبا شنودة". ولم يكن يخطر ببال أحد أن كل هذه التصرفات من قبل الأنبا شنودة كان يخفي وراءها مقاصد أخرى.
تعددت زيارات أسعد للبابا. منها زيارته له بعد أن تصاعدت الأمور بينالبابا شنودة والسادات، واعتكف البابا في دير الأنبا بيشوي. كان أسعد موفدا من حزبالتجمع لتحديد موعد لمقابلة وفد من الحزب. إلا أن هذه المقابلة بين وفد الحزب والبابا لم تتم بسبب تصاعد الأمور بين السادات والبابا. وعندما عزل الساداتالبابا زاره أسعد، لكنْ هذه المرة بتصريح من وزارة الداخلية. يقول أسعد عن هذه الزيارة: "كان لقاؤنا مع قداسة البابا عندما تم تقديم وجبةالغداء لنا، حيث تناولنا هذه الوجبة معا. وكان ذلك في أيام الصوم، فأكلنا طعامايتكون من فول وطعمية. لكن كان أهم ما يميز المائدة هو وجود الفاكهة ذات الأصناف الراقية التي تدعو إلى الاستفزاز".
بدأ أسعد حوارا مع البابا منذ الساعة الثالثةعصرا، ولم ينته إلا بعد منتصف الليل. لكن أهم ما دار بين الرجلين في الحوار كانالمشاهد التي تحدَّث عنها أسعد في الدير الذي عُزِل فيه البابا. يقول: "جلست مع قداسة البابا أمام المقر البابوي الموجود بالدير، وكان يوجد أكثر من خمسة كلاب من سلالةراقية يقوم البابا علي تربيتها. وكنت أجلس بجواره بينما كان قداسته يستخدم أحد الكلاب القابعة بجواره للاتكاء عليه". ويقول: "لم يتوقف الحديث بيننا إلا في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل لتنتهي هذه الجلسة الممتدة، لنقوم بعد ذلك بالذهاب على ضوء كلوب بسبب انقطاع التيار الكهربائي لكي نشاهد نسناسا قدمه أحد الزوار مندولة إفريقية هدية للبابا. وكان هذا القرد موضوعا في قفص، ويقف بجوار القفص أحد الرهبان، الذي يحمل كرتونة تفاح أمريكاني مستورد، ويقوم البابا بمداعبة القرد ويلقي له بالتفاح. وقمت بالنظر في قاع القفص فوجدت أن هناك أكثر من عشرة كيلو جرامات منهذا التفاح ملقاة في القاع لأن الكميات التي كانت تقدم لهذا القرد أكبر بكثير منأن يلتهمها".
ويقول: "من المواقف الطريفة خلال هذه الزيارة كان موقف جعلني أشعر بفزع شديد، فلقد كنا جالسين بعد فترة راحة، وذلك نحو الساعة السادسة مساء، وكان هذاأمام المقر البابوي داخل الدير، حيث التقيت قداسة البابا مرة أخرى، وفوجئت بمجموعةمن الكلاب الضخمة جدا تهجم علينا، فتملكني الرعب والفزع، خاصة أن أحد هذه الكلاب قام بالقفز برجليه على كتفي، وعنئذ صاح البابا في هذا الكلب قائلا: ارجع يا ولد. فتراجعت الكلاب وسارت خلف البابا وظلت مصاحبة لنا خلال هذه الجلسة التي استمرت عدةساعات، حيث ذهبنا بعد ذلك لتناول العشاء. وكان البابا يستخدم أحد هذه الكلاب كوسادة يتكئ عليها.
في جريدة "الشعب"، التي كان يكتب فيها جمالأسعد، أجري حوارا مع الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي. اختار جمال الأنباغريغوريوس لأنه صاحب رأي وفكر متجدد ومميز. كان جمال وقتها عضوا في اللجنة التنفيذية لحزب "العمل" الاشتراكي. نُشِر الحوار كاملا، وكان حديثا حول السياسة والكنيسة بل والعقيدة المسيحية أيضا، حتى إن وكالات الأنباء تناقلته وتناوله بعض الكتاب والسياسيين بالتعليق في مقالاتهم. غضب البابا من حوار أسعد مع غريغوريوس،ونقلت الغضب عضوة بحزب "العمل" هي بهجة الراهب. قالت لجمال إن البابا غاضب بشدة،وعنَّفت جمال، الذي قال لها: "يا سيدتي، نحن لا نعمل عند البابا. وليس من حقه أن يتدخل بالمنع أو التصريح بإجراء حديث صحفي مع هذا أو ذاك. رغم ذلك إذا كان لدى قداسةالبابا تعليق على ما تم نَشْرُه عليه أن يرسل هذا التعليق، وسوف ننشره". تراجعت بهجة الراهب، وقالت لجمال إن البابا يريد مقابلتك. فقال لها: "إذا كانت المقابلةستكون من خلال طريقتك هذه في التعامل فإنني لن أقابل البابا". وبالفعل تمتالمقابلة.
يقول أسعد: "دخلت إلى البابا في مكتبه الساعة العاشرة مساء ووجدتهممسكا بملف به مجموعة من الأوراق التي اكتشفتُ أنها أوراق الحديث الصحفي الذي سبق أنأجريته مع الأنبا غريغوريوس كلمة كلمة، ويرد على كل ما جاء بهذا الحديث، ليس منأجل تفنيد ما جاء به أو الرد عليه، ولكن كانت دهشتي وصدمتي أن هذا من أجل تسفيه كلما قاله الأنبا غريغوريوس. ولم يترك شيئا في الحديث إلا قام بنقده والحط من قدرهلدرجة أن الأنبا غريغوريوس قال في معرض حديثه معي أنه يجيد التحدث بخمس لغات، فوجدتأن البابا شنودة يقول: ماذا في هذا؟ أنا أتحدث سبع لغات حية". أجرى أسعد الحوارمع البابا، لكنه فوجئ بأنه يقول له: "كيف تجري حوارا مع الأنبا غريغوريوس، وهو شخصخائن وافق على أن يكون أحد أعضاء اللجنة التي قام بتشكيلها السادات عندما قام بعزلي ووضعي تحت التحفظ؟". وكان لا بد لأسعد أن يعلق. قال: "أحسست أن هناك صراعا غير عادي لا يليق بهذه القيادات الدينية، بل لا يليق إطلاقا أو يتفق مع أبسط مبادئالمسيحية وقوانين وأعراف الكنيسة، خاصة في ظل الوضع الروحي والخاص لهذه القياداتلدى النفوس. وفي تلك اللحظات شعرت بالاكتئاب والتعب النفسي الحقيقي. لقد سبب ليالبابا بهذا التصرف الذي لا يليق به كقيادة روحية صدمة كبيرة جدا لأنني كنت أتصورأن هذه القيادات الروحية أكبر بكثير جدا من مثل هذه التصرفات وأنها تترفع عن هذه الأفعال التي تتعارض مع الكتاب المقدس".
توثقت علاقة جمال أسعد بالبابا، لكن أسعد كانت له آراؤه التي أغضبتالبابا منه، وكانت هذه بداية النهاية. كان يرى مثلا أن الكنيسة مسئولة مسئوليةمباشرة عن الفتنة الطائفية، وهو ما اعتبره البابا شنودة نقدا شخصيا له. يفصّل جمال ما جرى، يقول: "قمت بطرح هذا الرأي من خلال مقالات في الصحف، وكانت إضافاتي الجديدة أن ممارسة القيادة الكنسية باعتبارها زعامة كاريزمية (البابا شنودة)وسيطرتها الكاملة علي
الأقباط
من خلال استقطاب الكنيسة لهموهجرتهم إليها جعلها بديلا كاملا عن المجتمع. وهذا أشبع غرور البابا شنودة وجعله يشعر أنه زعيم سياسي لا يمثل الأقباطفقط دينيا، بل وسياسياأيضا. وبالتالي اكتفىالأقباطبالتقوقع داخل أسوار الكنيسةواستغنَوْا عن المجتمع، مما تسبب في إصابتهم بداء السلبية الخطير، وأصبحالأقباطسلبيين تجاه المجتمع المصري. وهذا أدى إلي زيادة الاحتقانالطائفي اشتعالا".
يتبع ....