الإسلام والديمقراطية

حالة التجاذب السياسي التي أفرزتها ثورة 25 يناير أحدثت تحولات مثيرة للغاية في مواقف القوى السياسية والتيارات الفكرية من قضايا كثيرة ، وصلت إلى حد تبادل المقاعد والأدوار والأفكار أيضا ، فبينما كنا نعاني قبل سنوات من الخصومة التي يفترضها إسلاميون مع الديمقراطية ، وتأكيد قطاعات منهم بأنه لا ديمقراطية في الإسلام ولا إسلام في الديمقراطية ، أصبحنا الآن ـ بعد الثورة ـ وقد اتسعت مدارك الإسلاميين على اختلاف أطيافهم للمشاركة السياسية المنفتحة والقبول بالخلاف والعراك الديمقراطي ، بينما وجدنا على الطرف الآخر أن قطاعا واسعا من الليبراليين واليساريين وفلول إعلام الحزب الوطني يتقمصون أدوار الرفض الحاسم لإقحام الإسلام في الديمقراطية أو الديمقراطية في الإسلام ، رغم أن هذا هو نفس الموقف "المتطرف" الذي كانوا يشنعون به على الإسلاميين من قبل ويتهمونهم بأنهم يضعون الإسلام كنقيض للديمقراطية .

عندما يوجه كتاب ومثقفون خطابهم إلى شعب متدين ، يمثل المسلمون 94% من سكانه ، ويقولون له عليك أن تلقي دينك وإسلامك وراء ظهرك إذا أردت أن تشتغل في العمل العام أو أن يكون لك مشاركة سياسية ، فإنك بذلك تمارس أسوأ دعاية للمسار الديمقراطي ، وتفتح الطريق أمام أي قوى هامشية لاختطاف مسارات العمل العام في مصر ، والدخول في صراع اجتماعي وثقافي وإعلامي وسياسي مفتوح مع الغالبية الكاسحة من المجتمع ، وسوف ينتهي بك هذا المسار حتما إلى التحالف مع أي مشروع ديكتاتوري أو القبول بإدارة استثنائية أو عسكرية لشؤون الدولة تحتمي بها من حصار الشعب لك ، وتستطيع أن تعشش في ظلها مثل هذه القوى الهامشية لتكمل دور الجلاد للوطن وأهله ، وباختصار فإن مثل هذا التحريض السافر على الدين والإسلام في مصر واتهامه بأن عبء على الديمقراطية وأنه خطر على التعددية ، يمثل دعوة مبطنة لاستعادة المنظومة الديكتاتورية .

والحقيقة أنه لا تخلو منظومة سياسية في الشرق أو الغرب ، بما في ذلك الديمقراطية الأمريكية أو البريطانية من قيادات حزبية أو سياسية رفيعة تحاول أن تقدم نفسها لمواطنيها في صورة المتدين الورع والمحب للدين وأهله والحريص على القرب من الله ، مواقف وتصريحات وسلوكيات ، أكثرها نفاق ، لكن المهم أن جوهرها هو الإدراك بأن الدين أحد الطرق القريبة من قلوب الناس وأنك لا تستطيع أن يكون لك أي حضور سياسي محترم أو مؤثر وأنت تعادي تلك المشاعر الفطرية عند الناس ، لذلك يلجأون إليها ولو تصنعا ونفاقا ، هذا في الغرب الذي يخف فيه إلى حد كبير ارتباط المجتمع المباشر بالدين والتدين ، فكيف في المجتمع العربي والشرقي المسلم الذي يمثل التدين سمته الأساسية والظاهرة والحميمية ، كيف يمكنك أن تخاطب مجتمعا بهذا الشكل وأنت تمارس الإقصاء والتهميش والإهانة لدين الناس وتقول لهم : القوا بالدين وراء ظهوركم إذا أردتم أن يكون لكم سياسة .

من المفهوم أن تقوم الحركات السياسية على أساس احترام المواطنة والمساواة وأن لا يقوم العمل السياسي على أساس التمييز الديني والعرقي ، ولكن هذا شيء ، والدعوة إلى تهميش الدين وإلقائه وراء ظهرك كشرط للعمل العام شيء آخر ، لقد استمعت إلى أحد الكتاب وهو يهذي بكلام سخيف في قناة فضائية احتجاجا على أن رئيس اللجنة القضائية التي أعلنت نتيجة الاستفتاء بدأ حديثه بالبسملة ، وختمها بدعاء ديني !! ، هذا هوس وضرب من الجنون ، ويعني أن بعض المهمشين سياسيا يتصورون أنهم يعيشون في مجتمع ملحد أو مجتمع الجاهلية قبل الإسلام ، تم فيه ضبط بعض "أتباع محمد" يتلون آيات القرآن في المحافل العامة !.

في أي مجتمع في الشرق أو الغرب سترى وتجد بعض السلوكيات التي تعبر عن تشدد ديني غير مقبول ، ويصل أحيانا إلى حد السفه والجنون ، مثل هذا القس الأمريكي الذي أحرق نسخا من القرآن في احتفالية عامة ، رغم وجود عشرة ملايين "مواطن" أمريكي مسلم مؤمن بالقرآن ، ولا يقول أحد هناك أن الدنيا قامت ولم تقعد وأن الديمقراطية أصبحت في خطر في أمريكا ، ولذلك فمحاولة تصيد موقف لخطيب مسجد أو داعية تحدث فيه بطريقة احتفالية وغير ملائمة عن نتائج الاستفتاء ، واشتغال البعض على ذلك الموقف لتصوير مصر بأنها في خطر طائفي ومناشدات للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بإصدار القوانين القمعية والمخيفة لردع كذا وكذا ، كل ذلك محاولات مفضوحة ومكشوفة لاستكمال عملية التنكيل بالشعب المصري وتسفيهه وتصوير الاستفتاء على أنه كان بمؤثرات دينية .

والحقيقة التي لا بد من مصارحة أنفسنا بها ، أن الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الكنيسة المصرية بإعلانها رسميا الاحتشاد ضد التعديلات الدستورية وقيام القساوسة والكهنة بحشد الطوابير المثيرة من الأقباط والراهبات والكهنة أمام اللجان تسبب في رد فعل ساخط جدا من قطاع من المسلمين ، وبالتالي كان من الطبيعي أن يبتهج هذا القطاع من النتيجة بصورة استثنائية ، باعتبار أن "الكنيسة" فشلت في توجيه بوصلة التصويت برفض التعديلات ، وأتمنى أن يكون هذا الدرس البليغ حاضرا في المستقبل عندما تكون القيادة الكنسية في مواجهة أي استحقاقات وطنية حساسة .

http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=52285