حادثة في طريق دمشق

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أكرم الأنبياء وخاتم المرسلين محمد بن عبد الله النبي الأمي الأمين وآله و صحابته ...
مدخل لهذا الجزء :

النصرانية ؛ رسالة عيسى ابن مريم عليه السلام الموحي بها إليه يجهلها كثير من الناس ، إذ أنها اضمحلت وقضى عليها في مهدها ، كما وضاع إنجيله الذي أوحاه الحق تبارك وتعالى إليه ، والمراجع المعتبرة التي تُقبل يرفضها طرف بل ينكرها ، والعلماء الراسخون في العلم على طريق الدعوة قاموا بدورهم ، وإليهما - المراجع المعتبرة وأقوال وآراء العلماء – نعود ونقرأ ونغترف من معينهما الصافي العذب ، والمسيحية ؛ الدين الجديد الذي بدل لحظة ولادة النصرانية ؛ تم قبولها دون عناء كبير يذكر وإن وجد رفض من تلاميذ السيد المسيح عليه السلام وصراع ؛ فالصراع الفكري أو المادي بين الحق والباطل أو بين الكفر والإيمان سيظل قائماً ما بقيت السماوات والأرض لا ﺗﻬدأ معاركه أو تتوقف مصارعه ، ولا تخبو جذوته ، ولا تنتهي حوادثه ، بل تتبدل مفاهيم الكفر وآراءه فبتغير رجاله وتغير أزمانه وتتغير افكار الشرك والباطل بتغير أوقاته لكن مهما بلغت قوة الباطل وصولته ، ومهما كانت دولته وكثرته ؛ فإن العاقبة ستكون بإذن الله دائماً لأولياء الله المتقين ودعاته المخلصين ، فحسب دعاة الحق أﻧﻬم يستمدون قوﺗﻬم من قوة الله عز وجل ، ويأخذون أدلتهم من أفضل الكتب المنزلة والذي حفظ بعناية الله سبحانه وتعالى له ؛ القرآن الكريم ، وسنة رسوله الكريم ؛ خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وآله ، والتي حفظت أقواله وأفعاله وتقريراته إذ هي جزء من الوحي ؛ بكرم من الله الودود الرحيم وبمجهود مأجور من السادة علمائنا ، فحفظ مصدري الوحي فوجب السجود لله القاهر فوق عباده شكرا لفضله { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } [آية رقم 9 من سورة الحجر ورقمها 15] ثم نزيد السجود وجوباً فنسجد فهو الذي يعلمنا لقوله تعالى { وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) } [آية رقم 282 من سورة البقرة ورقمها 2] ثم نسجد سجود المقر بفضله وعطفه حين نقول { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ (43) } [آية رقم 43 من سورة الأعراف ورقمها 7 ] ثم ننسجد لله تعالى حين وفقنا إذ يقول فــ { مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } [آية رقم 15 من سورة الإسراء ورقمها 17] فالحمد والشكر واجب له ، أما دعاة الباطل فليس لهم إلا الحجج الواهية التي ترتكز على ضروب من الجهل والأوهام السخيفة.

المؤسس الفعلي للمسيحية !

بدءَ الخلافُ حول شاءول/ بولس منذ أن بدء يظهر على سطح الأحداث فأختلف في سنةِ مولدِهِ ، على رأيين :
الأول منهما : قيل إنه وُلدَ في العام الـرابع بعد الميلاد ،
أما القول الثاني فنحو السنة العاشرة الميلادية ،
وفي 30 ميلادية عُلقَ على خشبةِ الصلبِ الفادي كما يؤمنون ... فعلى القول الأول يكون عمر بولس في حدود الـــ "26" وقتها ، وعلى القول الثاني يكون عمره تجاوز الــ "20" .... ولم يلتق به أو رآه أو جلس بين قدميه متتلمذاً ولو لمدة ساعة من زمان ولم يقف بين يديه متعلماً حين مر أمامه لحظة من نهار .
هذا ويهتم الفاتيكان بالقديس بولس رسول الأمميين اهتماماً بالغاً ومنذ عامين أعلن عن احتفالية تستغرق عاماً كاملاً لإلقاء الضوء على حياته وأعماله - مع الغموض الذي يكتنف جزئيات عدة من شخصيته - فتمت فاعليات " عام بولس " برعاية الفاتيكان من 28 يونيو 2008 وحتى 29 من نفس الشهر عام 2009 ب. م. ، وناشد الفاتيكان ؛ بمبادرة من الراعي الأول البابا الحالي بمناسبة مرور 2000 سنة على مولد رسول الأمم ، ناشدَ بابا الروم الكاثوليك أهل الإختصاص في رسالة نشرت حينها بتقديم دراسات حوله ، وعلل هذه المبادرة بأن
„APOSTEL DER VÖLKER PAULUS VON TARSUS”
لعب دوراً هاما في المسيحية لذا فرغب نيافته بإلقاء مزيدَ ضوءٍ على حياته وأعماله ، وقد علم كاتب هذه السطور بهذا الخبر فطلب من الإخوة المسلمين أهل الأختصاص بتاريخ 12 يونيو 2008 ب. م. ببحث المسألة وفق قدراتهم ، ثم عقدت ندوة في روما تحت عنوان : " القديس بولس ، فريسي ابن فريسي ؛ الجامعة العبرية والمعهد البيبلي الحبري ، وأُعلن الخبر على الصفحة الرئيسة للفاتيكان يوم الجمعة 22 مايو 2009؛ ومما جاء فيه الآتي :
[ ابتداءً من يوم الأربعاء - 20 مايو 2009 - وعلى مدى ثلاثة أيام ، يجمع القديس بولس خبراء يهود ومسيحيين في ندوة تندرج في إطار سنة القديس بولس تحت شعار " بولس في الرحم اليهودي " . هكذا تواصل الجامعة العبرية في القدس تعاونها مع المعهد البيبلي الحبري . إن التعاون يشمل هذه الندوة الدولية التي تنكب على دراسة فكر بولس حول اللقاء بين العالم اليهودي والعالم الهيليني ، وحول العلاقات بين المسيحية واليهودية منذ نشأة الكنيسة ولغاية أيامنا الحالية . ووفقاً للبروفسور جوزيف سيفرز ، مدير مركز الكاردينال بيا للدراسات اليهودية (الجامعة الغريغورية) ومنظم هذا المؤتمر ، قال : المقصود من هذه الندوة مناقشة " مسائل معقدة " مثل بولس والشريعة ، بولس والتوراة " ، المسألة التي " كثيراً ما نتناولها فقط بطريقة معارضة ، في حين أن هذه العلاقة وعلى الرغم من أنها كانت مريبة إلا أن هذا لا يعني إنكاره للتوراة " ] . انتهى ما أعلن على صفحة الفاتيكان .

مما سبق نرى بوضوح أهمية شخصية ورسائل بولس في المسيحية وأفكاره وآراءه ، وعلى قدر ما توفر لدينا من مراجع نناقش بدورنا " مسائل معقدة " عند شاءول/ بولس، وما أردنا من البداية لنا ولهم إلا الهداية .

بولس الرسول :
" أشهر شخصية في أسفار العهد الجديد بعد يسوع فمعظم مادته تتحدث عن نشاطه التبشيري ، استشهد نحو عام 67 ب. م. خلال حملة الاضطهاد الشاملة ضد المسيحيين التي جرت خلال عهد الإمبراطور نيرون ، لم يرَ يسوع شخصياً لكنه واجهه في " رؤيا عقلية " عرضت له على طريق دمشق - موضوع هذا الجزء من البحث -. وقصر نشاطه على التبشير بين الوثنيين وهو المسؤول عن تشكيل " كنيسة الأمم " التي ورثتها كنيسة روما كقائدة للحركة المسيحية القويمة والمسكونية" (1)

بداية الــ " مسائل "
تعترف الكنيسة بقولها : " لسنا نعرف تاريخ هذه الحادثة التي غيرت مجرى حياة بولس ومجرى النصرانية بشكل دقيق " .. بعضهم يرجح سنة 30م ، وبعضهم سنة 38م (2)...

حادثة في طريق دمشق :
يروي لوقا قصة بدأها بقوله : " أما شاؤول فكان لم يزل ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ الرب فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات.. " .... فتقر النصوص التي وردت في الكتاب المقدس ؛ العهد الجديد باضطهاد شاءول للمسيحيين ، وتعترف كنائس (3) اليوم بهذا دون إنكار بل بتبرير (!!!) قد يقبل أو يرفض ، ولعل الأزمات التي مرت وتمر بها الكنيسة في الشرق والغرب هي الحصاد المر لما حدث على يد القديس بولس رسول الأمم أو الامبراطور قسطنطين ؛ وهما من الشخصيات المحورية في هذا البحث ، أو ما سطر في الأناجيل المعتمدة الآن في الكنائس ، أو ما افرزته المجامع المسكونية أو المحلية من قرارات وهي الورقة الثانية من بحثي هذا ، فتقول الكنيسة تحت عنوان :"

اضطهاده للمسيحيين: " كان أوّلُ ذكرِ لبولس في سِفر أعمال الرسل الأصحاح 7: الفقرة 58 ، إن الشهود في محاكمة استفانوس ( خلعوا ثيابهم عند رجليّ شاب يقال أنه شاول ) مما يدلّ كما جاء في نفس السِفر الأصحاح 8: الفقرة 1 ، على أنه صاحب نفوذ وأنه كان راضياً بقتله أي أنه كان على الأغلب ضمن المذكورين في سِفر أعمال الرسل الأصحاح 6: الفقرة 9 ، الذين ساقوا التهم ضد الشهيد الأول " .
أقول : نستشف من قول الكنيسة تميّز شاءول بين أقرانه وله دور على قدر حداثة سنه .

ثم تعقب الكنيسة على هذا بقولها :" فيظهر - شاءول - هنا كشخص متعصّب ، يكره الفكرة : أن ذلك المصلوب هو المسيا ويعتقد أن تابعيه كانوا خطراً دينياً وسياسياً " .
أقول : فالمتتبع لأفعاله وأقواله كما وردت في أسفار العهد الجديد في مطاردة الأتباع يصل إلى هذه الحقيقة ؛ التي اثبتتها نصوص الأناجيل وأقرت بها الكنيسة .

ثم تصف الكنيسة ما قام به شاءول : " بضمير مستريح كان يقوم بنصيب وفير في محاولة إرجاع هؤلاء أو قطع دابرهم " ، كما جاء في سِفر أعمال الرسل الأصحاح 8: الفقرة 3 ، وأيضاً في أعمال الرسل الأصحاح 22: الفقرة 4 ، وأيضا تجد في سفر الأعمال الأصحاح 26: الفقرة 10 و الفقرة 11 من نفس الأصحاح ، و رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس الأصحاح 15: الفقرة 9 ، و رسالة غلاطية الأصحاح 1: الفقرة 13 ، و رسالة فيلبي 3: 6 ، و رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس الأصحاح 1: الفقرة 13 . ثم تبرر الكنيسة ما قام به من أفعال بقولها :" قام بهذا الاضطهاد بقسوة شخص يثيره ضمير مضلّل " .
أقول : التعبير الآخير من هذه الفقرة محير بالفعل : " ضمير مضلّل " إذ أنها تبريرات غير مقنعة للباحث ، نعم قد تصلح للعامة من المؤمنين فيصدقونها ، بيَّد أن من يتعرف على بولس من قرب يجد أنه على درجة جيدة من الثقافة ومطلع على ما يحدث حوله بحكم موضع مدينته طرسوس التجاري والثقافي والعلمي وترتيبها الثالث بعد مدارس الأسكندرية وروما الفلسفية وتعليمه الذي اهتم به والده منذ صغره ثم أخيرا ـ وهو موضع شك ـ تعلمه على يد الحاخام غمالائيل ، وفي نفس اللحظة طعن من الأمام في نحر الدين ؛ اليهودي ، وذبح بسكين حاد في رقبة المذهب الذي تربى عليه وأعلن أنتماءه إليه في رسائله وخطاباته ، فهذه الكلمة هدم تام لكيان إنسان مكون من عقلية معينة ونفسية وتربية خاصة والتعبير إلغاء تعسفي لإنسان بما يحمل من محاسن وعيوب قد يهتدي إلى الحق بيَّد أننا نقف مذهولين مرة ثانية لما قام به أعمال وما أعلنه بعد الحادثة بقليل من أنه هو الذي يشرع وأن هذا رآيه هو وليس رآي السيد المسيح فالكنيسة في حيرة أمامه من ازدواجية شخصيته وتلونه أمام كل فريق يخاطبه أو يحادثه .

تكمل الكنيسة دوره بقولها :" فلم يكتفي بمهاجمة أتباع ذلك الطريق في أورشليم بل لاحقهم في خارجها" . وتبرر ذلك بقولها :" وفي كل ذلك يظن أنه يؤدي خدمة الله والناموس " .
أقول : ما تم بعد حادثة طريق دمشق قطيعة تامة كالقطيعة الواقعة بين إبليس وآدم أو كطلاق بائن أو ملاعنة بين بولس بأفكاره وآرائه التي سطرها في رسائله وبين ناموس ـ توراة ـ موسى ، وهذا ما حاولت ندوة روما إخفاءه أو معالجته.

الرواية :
تتعدد عناوين هذه الحادثة فتذكر الكنيسة رواية حادثة في طريق دمشق بهذه العبارات
الكتاب المقدس الترجمة المشتركة جاءت العبارة بــ : " اهتداء شاول " ،
الكتاب المقدس ترجمة فانديك جاءت العبارة بــ : " توبة شاول وتغير حياته " ،
الكتاب المقدس الترجمة الكاثوليكية – دار المشرق وردت العبارة التالية : " تنصُّر شاول " ،
الكتاب المقدس الترجمة البولسية نقرأ العبارة التالية : " الانقلاب العجيب " .
الكتاب المقدس ترجمة كتاب الحياة تطالعنا الترجمة بهذه العبارة : " إهتداء شاول " .
أقول : عنوان السِفر ؛ أعمال الرسل الأصحاح التاسع في الطبعات المتعددة توحي :
(1. ) بأن صاحبها كان في ضلال فهتدى ، كما جاء في الترجمة الأولى والخامسة ، أو
(2. ) أنه عاص فندم على ما بدر منه ورجع للصواب كما جاء في الترجمة الثانية وبالتالي غيّرَ نمط وطريقة حياته ، أو
(3. ) انتقل من يهوديته/ فريسيته التي تربى عليها إلى النصرانية كما جاء في عنوان الترجمة الثالثة ، أو
(4. ) حدث له تغيير غريب عجيب غير متوقع أو منتظر ما سبقه إليه أحد أو لحقه كما ورد في الترجمة الرابعة .
تعطي هذه الدقة في التعابير صورة واضحة المعالم لما جرى بين السيد " الرب " وبين خادمه وشاهده كما تُكمل بعضها بعضها وهي بذلك تهدم العهد العتيق (القديم) من أساسه ، واتساءل لما وضعته الكنيسة في كتابها المقدس ولما تتمسك به ، ولعل هذا جزء قادم نجيب على هذه التساؤلات في موضعها { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (18) } [آية رقم 18 من سورة يوسف ورقمها 12] بل { نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) } [آية رقم 18 من سورة الأنبياء ورقمها 21 ]

**

حادثة في طريق دمشق
سنأتي بأقوال الكنيسة وما سُطر في الأناجيل أولاً ثم نفند ما قيل بعد ذلك ، فقد قالت الكنيسة عن هذه الحادثة تحت عنوان :
تجدّده :
كان ذلك في الطريق إلى دمشق ، في وسط النهار عندما ابرق حوله نور من السماء فسقط على الأرض ( أعمال الرسل الأصحاح 9: الفقرة 3 )