بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

القول بأن شعب مصر بأسره كان يؤمن بالعقائد المسيحية على الصورة الموجودة بها اليوم حين الفتح الإسلامي لهو افتراء على الحقيقة والتاريخ، بل وكذلك القول بأن كل مسيحيّ المنطقة العربية كانت على العقائد المعروفة أو الشائعة عن المسيحية اليوم. والتى هى بعيدة تماما عن التوحيد افتراء ايضا فكيف كانت عقيدة اقباط مصر وقتها؟

المذهب المسيحي لأهل مصر:

فمصر كان أغلب أهلها من الذين يدينون بالمسيحية على مذهب آريوس (256 -336 م) وقد تلقى تعليمه اللاهوتي في أنطاكية في مدرسة لوقيانوس (270م), وذهب إلى الإسكندرية وخدم فيها وجعله البابا بطرس بابا الإسكندرية شماسًا وكانت خلاصة دعوته "عن الابن والروح القدس في النقاط الآتية:

1- الابن غير أزلي وهو خليقة الله الآب مثل الخلائق الأخرى إلا أنه سابق لها.

2- الابن ليس من جوهر الآب بل من جوهر آخر فقد خرج من العدم بحسب مشيئة الله وقصده.

3- إن معرفة الابن للآب محدودة وليست مطلقة ولا يستطيع الابن أن يُعلن لنا مَن هو الآب بطريقة كاملة.

4- إن المسيح الذي يتعبد له المسيحيون ليس إلهًا، ولا يملك الصفات الإلهية المطلقة مثل كونه كلي القدرة والعلم والحكمة، وكونه عديم التغير وأزلي.

5- بناء على ذلك فهو ليس إلهًا بذاته ومن ذاته ولكنه ارتقى إلى هذه الدرجة عن طريق رفع الله الآب له.

6- يعتقد آريوس بأن الروح القدس هو أيضًا أدنى من الآب وهو مخلوق أيضًا."

فتلك كانت عقيدة أغلب مسيحيو مصر حيث يقول بابا المسيحيين بمصر: "وحينما نتكلم عن الآريوسية إنما نقول إنما بدأها آريوس وهو كان قسًا في الإسكندرية وكان فصيحًا بليغًا مؤثرًا في الناس واستطاع أن يجذب إليه ليس فقط كثيرًا من الشعب، وإنما أيضًا بعض الأساقفة صاروا أساقفة آريوسيين في العالم كله ـ ليس في بلد واحدة ـ كان أساقفة أريوسيين في أماكن كثيرة".

وما يؤكد القول السابق أنه حين قرر أسقف الإسكندرية البابا بطرس الأول (300 – 311 م) حرمانه، عاد مرة أخرى في عهد خلفه البابا أرشيلاوس (311 – 312 م) فجعله كاهنًا وسلمه كنيسة بوكاليا، وهي كنيسة الإسكندرية الرئيسة في ذلك الوقت, وكان سبب ذلك أن تقدم إليه جماعة من الشعب وطلبوا منه قبول آريوس، فقبله. بل بعد موت البابا أرشيلوس حاول أتباع أسقف ليكوبوليس (أسيوط) بكل طاقتهم عرقلة الكسندروس مرشحين آريوس ليكون هو البابا البطريرك.

قوة آريوس وكثرة أتباعه:

ومن الواضح أن آريوس كان موفقًا جدًا لدرجة أنه كان يتحرك من نجاح إلى نجاح فيذكر القمص إسكندر أنه خلال فترة حرمانه: "ذهب إلى قيصرية فلسطين وشرح لأسقفها (يوسابيوس القيصراني) تعاليمه فنصحه بالكتابة إلى يوسابيوس النيقوميدى الذي ساند آريوس كثيرًا وقبله كاهنًا في إيبارشيته".

بل أن البابا شنودة يذكر في محاضرته السابقة أن يوسابيوس القيصراني ويوسابيوس النيقوميدى صارا من الآريوسيين. بل وصارت له حاشية في البلاط الإمبراطوري مكنت له.

ومن الجدير بالذكر أن يوسابيوس القيصراني (263 – 340 م) المتهم بالآريوسية أو الميل لها على الأقل، قد هرب أيام الاضطهاد إلى صور ومنها إلى طيبة في برية مصر.

ويذكر أيضًا أن آريوس حين رجع مرة أخرى إلى الإسكندرية كان معه "مجموعة من أتباعه، وبدأ ينشر تعاليمه عن طريق الترانيم والأناشيد، ولأن الإسكندرية ميناء عظيم وصلت تعاليمه إلى الكثير من بلاد الشرق والغرب". بل إن تلك التعليم قد بلغت أقصى الغرب حتى وصلت إلى أسبانيا وآمن بها بعض القبائل الجرمانية.

مذهب آريوس أقوى من مجمع نيقية:

مما سبق يتضح أن تعاليم آريوس قد بلغت مبلغًا عظيمًا، ما حد بالإمبراطور للدعوة لعقد مجمع نيقية الذي انتهى بوضع صورة الإيمان المسيحي على الصورة المعروفة اليوم وبحرمان آريوس؛ ولكن لم يكن لمثل آريوس أن يستسلم لهذا فاستمر في دعوته، يقول القمص إسكندر وديع: "بسبب الطريقة التي اتبعها آريوس في نشر تعاليمه لم يستطيع مجمع نيقية القضاء على بدعته فاستمرت هذه التعاليم منتشرة".((بدعته ))

ويقول أصحاب كتاب (حقيقة لاهوت يسوع المسيح) في الجزء السادس منه: "واجه إقرار الإيمان النيقوي معارضة كثيرة. فقد رفض كثير من الآريوسيين هجر عقائدهم حتى عند مواجهتهم ببيان الإيمان العقائدي النيقوي الذي يترجم الحق الكتابي". ويقول أيضًا: "وعلى الرغم من طرد آريوس، فقد تمكن من التأثير على كثير من أعضاء الكنيسة في فترات متقطعة لسنوات كثيرة بعد مجمع نيقيه". ومن ذلك التأثير انعقاد مجمع صور سنة 335م الذي حرّم البابا أثناسيوس والذي كان يرأسه صديقه يوسابيوس القيصراني. ثم عُقد بعد مجمع في أورشليم - بعد تدشين كنيسة القبر المقدس - من الأريوسيين وأصدروا قرارًا بعودة آريوس إلى الإسكندرية. وتمكنوا أيضًا من إصدار قرار بحرمان أثنايوس ونفيه إلى فرنسا.

المذهب الآريوسي أقوى بعد موته:

ولما مات آريوس في عام 336 م كان أتباعه قد بلغوا من القوة مبلغًا عظيمًا، حيث تمكنوا من عقد مجمع في إنطاكية عام 340م وقرر المجمع أعادة صياغة دستور الإيمان. ومن الواضح أيضًا أنهم كانوا في منتهى الشدة على مخالفيهم إذ يقول البابا شنودة إنهم كانوا "في منتهى العنف وربما أعنف من آريوس نفسه".

ولعل الذي قوى عزائمهم هو ما كان لدى قسطنطين الأول (313 – 337 م) من ميل لمذهبهم، ثم لما تولى من بعده ابنه قسطانس (337 – 362م) كان آريوسيًا أيضًا. ومن شدتهم في مصر أن جعلوا البابا أثنايوس يهيم على وجهه هاربًا فزعًا ويقول: "إن عيني لا تكف عن الدمع ولا روحي عن الأنين, ولكن الرب يشهد على أني بسبب اضطهادهم أصبحت لا أستطيع أن أرى حتى والدي اللذين لي".

بل من الواضح أنهم كانوا كثرة وكانوا يسيطرون على كل شيء حيث يقول البابا أثنايوس: "ما هو الذي أبقى عليه الآريوسيون؟ .. إنهم يراقبون الشوارع ويتحققون من كل إنسان يدخل ويخرج المدينة (الإسكندرية) يفتشون المراكب, يجولون في الصحراء, يحاصرون البيوت".

المذهب الديني الغالب في الإمبراطورية الرومانية:

بل يمكن القول إنه بحلول عام 359 م كان المذهب الأريوسي قد عم الإمبراطورية الرومانية شرقيها وغربيها إذ إن قسطنطين قد صار في آخر أمره آريوسيًا بتأثير مستشاره يوسابيوس النيقوميدي، وأن أغلب أبناء قسطنطين كانوا آريوسيين. ثم توحد المملكة كلها تحت إمرة ابنه قسطانس الآريوسي.

وهكذا ظل الحال حتى عام 362م إذ استدعى الإمبراطور يوليانوس البابا أثنايوس وبذل كل ما في وسعهِ لمصالحة الآريوسيين مع أتباع نيقيا، ولكنه نفي فيما بعد واتهم بأنه "معكر السلام وعدو الآلهة". ثم نُفي المرة الأخيرة عام 365 م واضطرَّ لأن يختبئ في قبرِ أبيهِ.

وينبغي أن نشير إلى أن مدة جلوس البابا أثنايوس كانت 45 عامًا قضى أغلبها في المنفى؛ وهذا ولا شك قد عَسَّرَ عليه نشر مذهبه ومعتقده المسيحي، خاصة وأن خصومه كان مذهبهم سهل لا يحتاج إلى شرح كمذهبه مع ما وصفوا به من فصاحة وبلاغة وقدرة على التأثير. يثبت هذا ما قاله القديس غريغوريوس النيصصي (330 – 395م) في حقهم: "طُعم محلّي للبسطاء يخفي شصّ التجديف، وجه جذّاب يتلفت يمينًا ويسارًا ليوقع العابرين!، حذاء لائق لكل قدم!، بذور تبذر في كل ريح!".

ويشير إلى عقلانية تعاليمهم بقوله: "فمعظم الهراطقة كآريوس، أفنوميوس، صابيليوس، حاولوا أن يدرسوا الإعلان الإلهي ويبرهنوا بمقولات عقلانية بحتة، لكن هذا التصوير العقلي للأمور يُنزل الإعلان إلى المستوى الإنساني". وأما عن صعوبة التعاليم الأخرى فيقول: "فوجود الظلام الإلهي ضروري وليس له صفة سلبية، فالظلام القائم بين الله والإنسان هو مثل الغمام الذي دخل فيه موسى وهذا الظلام يحميه من نار الألوهة مثلما يحمي الظلّ الإنسانَ من نار الشمس".

والذي يؤكد أن عامة الشعب كانت قد آمنت بأقوال الآريوسية ما يذكره القديس غريغوريوس النيصصي (330 – 395م) من أن "الجميع في الشوارع والأسواق وفي الساحات وعند مفترق الطرق يتكلّمون في ما لا يفقهون. فإذا سألت أحدًا من الباعة: ماذا أدفع لك؟ أجابك: هو مولود أو غير مولود. وإذا أنت حاولت أن تعرف ثمن الخبز, أجابوك: إن الآب أعظم من الابن. وإن سألت: هل الحمام جاهز؟ سمعت جوابًا: إن الابن جاء من العدم".

ونشير أيضًا إلى أن والدة الإمبراطور يوليانوس (331 – 363 م) كانت نسيبة يوسابيوس أسقف نيقوميدية المناضل في سبيل الآريوسية؛ وقد وضع يوليانوس ثلاثة كتب طعن فيها في ألوهية المسيح. أي أنه لم يكن مجرد حاكم بل قد جمع مع ملكه علمًا؛ وما ذلك إلا لكونه ربي في حجر الأسقف يوسابيوس. وكذلك قد كان فالنس خليفته أريوسيًا أيضًا. واستمر الأمر على ذلك المنوال حتى عهد ثيودوسيوس الأول (379 – 395 م) فأُعلن الإيمان النيقاوي عام 379 إيمانًا قويمًا ودينًا رسميًّا للإمبراطورية. ولتثبّيَت هذا الإيمان تم الدعوة لعقد المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية عام 381.

وهكذا ترى كيف كان مذهب المسيحيين الموحدين هو الأعم الأغلب على المستوى الرسمي والشعبي قبل ميلاد المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأقل من مائتي عام وقبل مجيء الفتح الإسلامي (638م) إلى مصر بحوالي مائتين وخمسين عامًا.


المصدر

اسلام واى www.islamway.com