﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾‏[‏البقرة‏:34]‏



هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بداية العشر الثاني من سورة البقرة‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وآياتها مئتان وست وثمانون‏(286)‏ بعد البسملة‏,‏ وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول قضية التشريع الإسلامي‏.‏
هذا‏,‏ وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة‏,‏ وما جاء فيها من تشريعات‏,‏ وعقائد‏,‏ وأخبار‏,‏ وقصص‏,‏ وقواعد أخلاقية وسلوكية‏,‏ وإشارات كونية‏,‏ ونركز هنا علي وجه الإعجاز الإنبائي في الأخبار عن الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ‏,‏ وهو حدث لم يشهده أي من بني آدم‏,‏ ولم يكن لأهل الجزيرة العربية إلمام به في زمن الوحي‏.‏


من أوجه الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة‏:‏
يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ ‏ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾‏[‏البقرة‏:34]‏.
والأمر الإلهي إلي الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ هو تأكيد تكريم الله ـ تعالي ـ للإنسان في شخص أبينا آدم ـ عليه السلام ـ الذي كان يحمل جميع ذريته في صلبه لحظة خلقه‏.‏
والسر في هذا التكريم هو ذلك العلم الوهبي الذي من الله ـ تعالي ـ به علي أبينا آدم‏,‏ وتلك الإرادة الحرة التي وهبها إياه‏,‏ ومقام النبوة الذي حمله أمانة التبليغ عن الله‏,‏ كما حمله لسلسلة طويلة من الأنبياء من ذرية آدم‏,‏ ولعدد من الصالحين من تلك الذرية التي كرمها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ وفضلها علي كثير ممن خلق تفضيلا‏,‏ وذلك بقوله العزيز‏:‏﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ ‏[‏ الإسراء‏:70].‏
ولقد سجد الملائكة أجمعون امتثالا لأمر الله ـ تعالي ـ‏,‏ و‏(‏السجود‏)‏ لغة هو التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره من صور الخضوع‏,‏ و‏(‏السجود‏)‏ في الشرع هو وضع الجبهة علي الأرض بقصد الخضوع بالعبادة لله ـ تعالي ـ وهذا لا يكون أبدا لغير الله‏.‏ أما سجود الملائكة لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ فقد كان صورة من صور إظهار التكريم والاحترام‏,‏ وتقديم التحية الواجبة دون وضع الجباه علي الأرض‏,‏ وهو لا يكون لغير الله كما ذكرنا‏,‏ وذلك للمخلوق الذي كرمه الله‏,‏ إقرارا بالمقام الذي رفعه إليه خالقه ـ سبحانه وتعالي ـ‏.‏
وتستمر الآية الكريمة في الإشارة إلي وجود إبليس اللعين مع الملائكة ـ دون أن يكون منهم ـ فتقول‏:‏ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾‏[‏البقرة‏:34]‏.
والسياق القرآني هنا واضح الدلالة بأن إبليس لم يكن من الملائكة‏,‏ إنما كان حاضرا معهم وقت هذه الواقعة‏,‏ لأنه لو كان من جنس الملائكة ما عصي أمر الله ـ تعالي ـ أبدا‏,‏ وذلك لأن من صفات الملائكة أنهم ﴿...لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾‏[‏ التحريم‏:6].‏
والاستثناء في الآية الكريمة لا يدل علي أن إبليس كان من جنس الملائكة‏,‏ لأن مجرد وجوده معهم يجيز هذا الاستثناء‏,‏ خاصة أن سورة الكهف تؤكد أنه ﴿... كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ...﴾ [‏ الكهف‏:50].‏
والله ـ تعالي ـ خلق الملائكة من النور‏,‏ وخلق الجان من النار‏,‏ لقوله سبحانه ﴿...وَخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ...﴾ ‏ [‏ الرحمن‏:15].‏
والاسم‏(‏ إبليس‏)‏ مشتق من‏(‏ الإبلاس‏)‏ وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس‏,‏ وفعله‏(‏ أبلس‏)‏ بمعني بئس إلي حد القنوط‏,‏ لأن إبليس مطرود طردا مطلقا من رحمة الله‏,‏ ولا أمل له في مغفرة أو توبة‏,‏ ولذلك يئس من ذلك ومن هنا جاء اسمه‏.‏
وواقعة أمر الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ وتحقق سجودهم‏,‏ مع رفض إبليس اللعين‏,‏ لذلك جاءت الإشارة إليها في سبع من سور القرآن الكريم علي النحو التالي‏:‏
‏1‏ ـ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾‏[‏البقرة‏:34]‏.
‏2‏ ـ ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ *

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾‏[‏ الأعراف‏:12,11].‏
‏3‏ ـ ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ﴾‏[‏ الحجر‏:28‏ ـ‏40].‏
‏4‏ ـ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ ‏[‏ الإسراء‏:61‏ ـ‏65].‏
‏5‏ ـ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾‏[‏الكهف‏:50].‏
‏6‏ ـ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾‏ ‏[‏ طه‏:116‏ ـ‏122].‏
‏7‏ ـ ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ﴾ ‏[‏ ص‏:71‏ ـ‏80].
وهذه الآيات القرآنية الكريمة توضح طبيعة المعركة بين الشيطان والإنسان‏,‏ تلك المعركة التي هي جزء من ابتلاء الإنسان باستخلافه في الأرض‏,‏ بعد أن زوده الله ـ تعالي ـ بالعدة اللازمة للانتصار في تلك المعركة من العلم‏,‏ والعقل‏,‏ والإرادة الحرة‏,‏ إذا أحسن توظيفها‏,‏ خاصة أن الشيطان كان قد توعده بالغواية‏,‏ وأن الله ـ تعالي ـ ترك للإنسان الباب مفتوحا للتوبة والإنابة‏,‏ ويسر له الالتزام بالهداية الربانية التي أنزلها علي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين‏,‏ ثم أتمها وأكملها وحفظها في القرآن الكريم‏,‏ وفي سنة سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم‏,‏ ولذلك قال ربنا ـ عز من قائل ـ‏:‏ ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى ﴾‏[‏ طه‏:123‏ ـ‏126].‏
وهذه الواقعة المتجسدة في الأمر الإلهي إلي الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ وهو في الجنة‏,‏ وتحقق سجودهم أجمعين له‏,‏ ورفض إبليس اللعين السجود له استعلاء وكبرا‏,‏ بدعوي أنه أفضل من آدم لخلقه من نار وخلق أبينا آدم من طين‏,‏ ثم طرد إبليس من الجنة‏,‏ وتوعده لآدم ولذريته بالغواية‏,‏ حتى غواه وهو في الجنة فعصي آدم ربه‏,‏ ثم تاب وندم‏,‏ وقبل الله ـ تعالي ـ توبته‏,‏ وعلي الرغم من ذلك أخرجه الله وزوجته من الجنة‏,‏ ليبدأ الصراع الحقيقي بينهما وذريتهما‏(‏ من جهة‏),‏ وبين الشيطان وجنوده وأعوانه‏(‏ من جهة أخري‏),‏ وهو من طبيعة الاستخلاف في الأرض‏.‏ كل ذلك من أمور الغيب المطلق الذي لم يشهده أي من ذرية آدم‏,‏ وإيراد القرآن الكريم تلك الواقعة بهذا التفصيل حتى يعي كل فرد من أبناء وبنات آدم طبيعة العدو المترصد له بالفتنة والغواية‏,‏فيتعلم كل منهم كيف يوصد الباب دونه‏,‏ ويقاوم كل محاولات الشيطان لإخراج الإنسان عن النهج القويم الذي وضعه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ له طيلة وجوده في هذه الحياة الدنيا‏,‏ فإن غلبه الشيطان في لحظة ضعف‏,‏ فإن باب التوبة مفتوح لا يغلق حتى يغرغر الإنسان‏,‏ وهذا هو الدرس الأساسي من وراء إيراد تلك لواقعة‏.‏
وأمر الله ـ سبحانه وتعالي ـ للملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ‏,‏ وتحقق ذلك‏,‏ وعصيان إبليس الأمر الإلهي وطرده من الجنة‏,‏ وإغواؤه لأبوينا آدم وحواء بالأكل من الشجرة المحرمة‏,‏ وإخراجهما من الجنة‏,‏ ثم توبتهما‏,‏ وقبول الله ـ تعالي ـ تلك التوبة‏,‏ كل ذلك لم يكن معلوما لأهل الجزيرة العربية‏,‏ ولا لأحد من الخلق في زمن الوحي‏,‏ لأن أهل الأرض جميعا كانوا قد فقدوا أصول الدين وابتدعوا فيه ابتداعا مخلا‏,‏ أو انصرفوا عنه انصرافا كليا‏.‏
فأهل الجزيرة العربية كانوا قد فقدوا الصلة برسالة كل من نبي الله إبراهيم‏,‏ وولده نبي الله إسماعيل ـ عليهما السلام ـ فعبدوا الأصنام والأوثان‏,‏ والنجوم والكواكب‏.‏
وفي الدول المجاورة شرقا انتشر العديد من الديانات الوضعية كالمجوسية‏,‏ والزرادشتية‏,‏ والمانوية‏,‏ والمزدكية‏,‏ والصابئة‏,‏ والدهرية‏,‏ التي كانت قد ابتدعت في الدين ما لم ينزل به الله سلطانا‏.‏
ولذلك لم يجد في تصحيح معتقدات العرب وجود بعض الجيوب من اليهود والنصاري علي أطراف الجزيرة العربية الشمالية والشمالية الغربية‏,‏ والجنوبية الغربية‏,‏ فهؤلاء كانوا في جملتهم من الأميين الذين لجأوا إلي الجزيرة العربية هروبا من اضطهاد كل من الفرس والروم‏,‏ فكل من المناذرة والغساسنة كانوا عربا من أصول يمانية هاجروا إلي كل من شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق في القرن الثالث الميلادي بعد انهيار سد مأرب‏,‏ وكانوا قد تنصروا‏,‏ ويهود كل من خيبر ويثرب واليمن كانوا من بقايا الذين فروا من اضطهاد كل من الروم والفرس‏,‏ ولم يجدوا ملجأ لهم إلا في أراضي شبه الجزيرة العربية‏,‏ وأغلب هؤلاء كانوا من العوام الذين لم تتوافر لهم أية ثقافة دينية‏.‏
وانطلاقا من هذا العهد الإلهي الذي قطعه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي ذاته العلية فستظل هذه الرسالة الخاتمة محفوظة بحفظ الله إلي ما شاء الله‏,‏ لتبقي حجة الله علي خلقه إلي يوم الدين‏,‏ وشهادة بنبوة خاتم المرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي بعثة خير الأنام‏..‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.