ما هو مقياس التفاضل بين الحضارات والأمم والأشخاص؟

اختلفت مقاييس النّاس بعدد اختلافهم، دعونا نستعرض طرق تفكيرهم، ثمّ نعود للقرآن لنرى كيف صحّح المفاهيم، ثمّ لنعلن في الختام المقياس الذي وضعه الله تعالى للتّفاضل بين الحضارات والأشخاص.

أسس التفاضل عند اليهود

عند اليهود يقسم النّاس إلى عبرانيّين وأمميين، ومقياس التفاضل عندهم هو أن تكون من بني إسرائيل لا من غيرهم، وهم يعتقدون أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه وأنّه فضّلهم على العالمين وأنّهم شعبه المختار، وأنّهم ذريّة إبراهيم من زوجته الشرعيّة سارة أمّا باقي الشعوب أبناؤه من جاريته (18 والربّ اختاركم في هذا اليوم لتكونوا من نصيبه كما قال لكم فتعملوا بجميع وصاياه 19 ليجعلكم فوق جميع الأمم) التثنية 26/ 18-19
وفي صلاتهم يقول الرجل: (مبارك هو الذي لم يخلقني وثنياً ومبارك هو الذي لم يخلقني إمرأة ومبارك هو الذي لم يخلقني عبداً أو رجلاً جاهلاً).
والكتاب المقدّس جعل بعض البشر عبيداً لبعض حسب العرق: (ويكون كنعان عبداً لسام) تكوين 9/ 26، فالكنعانيين (مثل الفلسطينيين) يجب أن يكونوا عبيداً للسّاميين (اليهود) حسب الكتاب المقدّس.

ومقاييسهم غير منطقيّة فالله تعالى ربّ العالمين، خلق جميع الناس وهو يرزقهم ويدبّر أمورهم، فلماذا يفضّل شعباً على آخر هكذا جزافاً؟ ولماذا يفضّل رجلاً على امرأة وهو خلقهم جميعاً؟ والحقيقة أنّ الله فضّلهم على عالمي زمانهم عندما كانوا المؤمنين الوحيدين في ذلك الزمان، وجعل فيهم النبوّة والكتاب، لكنّهم لمّا أشركوا بالله وقتلوا الأنبياء وكفروا نعم الله عليهم غضب عليهم ونقل الرسالة منهم إلى غيرهم. وبعد أن كان لقبهم شعب الله المختار صار لقبهم الأمّة الغضيبيّة. وقد ردّ عليهم الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 6 وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 7) الجمعة.

أسس التفاضل عند النصارى

أمّا المسيحيّون فهم أيضاً يقسمون الناس إلى أبناء موعد وأبناء جسد، فعلى الرغم أنّهم من أبناء الجارية إلّا أنّ المسيح حرّرهم فصاروا أبناء حرّةٍ بالموعد، أمّا أبناء الجسد فقد بقوا أبناءً للجارية لأنهم لم يؤمنوا بالمسيح، يقول نبيّهم بولس (22 يقول الكتاب: كان لإبراهيم ابنان أحدهما من الجارية والآخر من الحرّة 23 أمّا الذي من الجارية فولد حسب الجسد وأمّا الذي من الحرّة فولد بفضل وعد الله.... 28 فأنتم يا إخوتي أبناء الوعد مثل إسحق 29 وكما كان المولود بحكم الجسد يضطهد المولود بحكم الروح فكذلك هي الحال اليوم 30 ولكن ماذا يقول الكتاب؟ يقول: اطرد الجارية وابنها، لأنّ ابن الجارية لن يرث مع ابن الحرّة 31 فما نحن إذاً يا إخوتي أبناء الجارية بل أبناء الحرّة) غلاطية 4/ 22-31
ثمّ يقول (فالمسيح حرّرنا لنكون أحراراً) غلاطية 5/ 1

هذه دعوةٌ منحدرةٌ من المقياس اليهودي، تنمّ عن طائفيّةٍ بغيضة وتدعو إلى ظلم المختلفين عنهم، فبأيّ حقٍّ تُطرد الجارية وابنها؟ هذا مقياسٌ يتنافى مع عدل الله تعالى وحكمته، وقد ردّ عليهم الله تعالى: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 111 بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 112) البقرة.

ولما قال أهل الكتاب نحن أبناء الله وأحبّاؤه ردّ عليهم الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ 18) المائدة

ومن هنا نجد أنّ تاريخ أهل الكتاب دمويٌّ كلّما علوا في الأرض عاثوا فيها فساداً وظلماً، حتى فيما بينهم لم يرحموا بعضهم البعض، فتارةً يضطهد اليهود النصارى وتارةً يضطهد النصارى اليهود وتارةً يضطهد الكاثوليك البروتستانت وتارة يضطهد البروتستانت الكاثوليك، (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) 64 المائدة

أسس التفاضل عند البراهمة (الهندوس)

وعند البراهمة يعدّون الطبقيّة جزءاً من دينهم ويقسّمون الناس إلى:
- البراهمة: وهم الذين خلقوا من رأس الإله براهما وهم الكهنة والزعماء الرّوحيّون
- الأكشتاريا: وهم الذين خلقوا من ذراع براهما وهم القادة السّياسيّون والعسكريّون
- الويش: وهم الذين خلقوا من فخذ الإله وهم أرباب الحرف والمهن من مزارعين وتجّار
- الشودرا: وهم الذين خلقوا من قدم براهما وهم المنبوذون وهم سكّان الهند الأصليّون الذين خضعوا للغزاة الآريّين (الذين يمثّلون الطّبقات الثلاث).

هذه خرافاتٌ اختلقها غزاةٌ محتلّون ليسهّلوا على أنفسهم إخضاع الشعب المحتل واضطهاده واستعباده باسم الإله وضمان خضوعه وطاعته وصمته على أوضاعه الرهيبة مستغلّين جهل الشعب وضعفهم. (اتّخذوا مِن دونِهِ آلِهةً لولا يَأتونَ عليهِم بِسُلطانٍ بَيّنٍ فَمَن أظلَمُ مِمَّنِ افتَرى على اللهِ كَذِباً) 15 كهف

أسس التفاضل عند الغرب

والغرب يرون أنفسهم أفضل من باقي الحضارات الأخرى، فهم بيض والآخرون ملوّنون، وتراهم يمجّدون قيمهم بينما يستهزئون بمقدّسات الآخرين، ويقدّسون حقوق الإنسان (ويعنون بالإنسان أنفسهم فقط) بينما يستعمرون الشعوب الأخرى وينتهكون فيها حقوق الإنسان.

ومن هذه الثقافة نبت النّازيّون الذين قسّموا النّاس حسب أعراقهم؛ عرقهم الآريّ هو الأسمى ووزّعوا باقي الشعوب على الدرجات الأدنى. وجعلوا أدناها على الإطلاق اليهود.

وكانت نهاية النّازيّين الذلّ والصَّغار. ونهاية الأوروبيّين كما تشير دراساتهم هم الإفلاس والانحسار، وهاهو الإسلام الذي لطالما وقفوا في وجهه ينتشر في قارّتهم وهم لا يدرون ما يصنعون أكثر ممّا صنعوا (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ 4 وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5 وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ 6) القصص

المدنيّة أساس التفاضل عند المأخوذين بها

ومن الناس من يرى أنّ مقياس التفاضل بين الأمم هو عراقة المدنية، فالدول التي تحتوي على الأبراج والقصور والمصانع والتكنولوجيا والبساتين هي التي على حقّ.

وهذا غير صحيح، ففي عهد النظام النازي الديكتاتوري كان هناك تقدّمٌ مدني، وكذلك في عهد النظام الشيوعي الظالم، وفي اليابان حيث تمتلئ أذهان الناس بالخرافات والأساطير هناك تقدّمٌ مدني، وفي أوروبا المليئة بالعمران ترقص نساءٌ في الحانات عاريات من أجل بضع قطعٍ نقديّة، ويتزوّج الرجال بعضهم البعض، لذلك يجب أن نميّز بين (المدنيّة) وهي التقدّم المادي و(الحضارة) وهي تقدّم الإنسان كإنسان.

ذلك أنّ كثيراً من هذه الأمم المستكبرة في الأرض بينما تزداد مدنيّةً تهوي بمستوى الإنسان إلى الحيوان، أي يعيش الإنسان كالحيوان لا يهتمّ إلّا لرغباته وشهواته، عنده الغاية تبرّر الوسيلة، مهما كانت الغاية غير شريفة، والوسيلة غير نظيفة، ظنّاً منهم أنّ هذا تقدّمٌ وحضارة، وهو في الحقيقة قذارةٌ وفجارة، تغرّهم قوّتهم حتى تؤدّي بهم إلى ظلم الشعوب الأخرى وقهرها، ويعدّون أنفسهم دائماً على حقّ لأنّهم الأقوى.

هذه الأمم لا تقرأ التاريخ ولا تنظر إلى من كانوا قبلها ممن هم أشدّ قوة، وأكثر توسّعاً في البلاد وتسلّطاً على العباد وتصرّفاً بأنواع العمارة حتى أنّ آثارهم ما تزال موجودةً حتّى اليوم، لكنّهم عاشوا مثلهم حياة البطر والاستكبار وبقوا يتدحرجون في غيّهم حتى سقط بهم في مهاوي الهلاك، قال تعالى: (كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 69) التوبة

طينة الوطن والقبيلة والعشيرة والعائلة هي أساس التّفاضل عند (المُنتنين)

وبعض الناس يتعصّب لبلده وبعضهم لقبيلته وبعضهم لعشيرته وبعضهم لعائلته.

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

وهي عصبيّات منتنة لطالما تسبّبت بحروب عبثيّة وغارات ظالمة، وهي سببٌ للتشرذم والفرقة، وعائق عن التقدّم والتعاون، واستنزافٌ للجهود والطاقات، وعمىً عن الحقّ، وحيثما حلّ هذا التفكير البدائي يحلّ معه التخلّف والجاهليّة، وقد عدّها الله في جملة أنواع العذاب الذي يسلّطه على من يستحقّه (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ 65) الأنعام

ضيّع المسلمون فتح فرنسا حين اشتغل العرب والبربر والمضرية واليمنية والشاميين والبلديين ببعضهم البعض ويالهول ما ضيّعوا، ولو انتصروا في تور- بواتييه وفتحت فرنسا لتلي القرآن وفُسّر في أكسفورد وكامبردج كما يقول جيبون، ولَوَفّروا على أمّتهم عناء حقبة الاستعمار التي تلظّى بنارها المسلمون جميعاً على اختلاف عشائرهم وقبائلهم وطينتهم...

كما أنّه مقياسٌ غير مقبول فمن منا اختار وطنه أو قبيلته أو عشيرته أو حتّى أبويه؟ جعلنا الله شعوباً وقبائل لنتعارف ونتآلف، لا لنتنافر ونتخالف (يا أيّها النّاسُ إنّا خَلقناكُم من ذَكَرٍ وأُنثى وجَعَلناكُم شُعوباً وقَبائِلَ لتَعارَفوا) 13 الحجرات.

ولد إبراهيم عليه السلام في العراق ودفن في فلسطين، وولد موسى عليه السلام في مصر ودفن في فلسطين وولد محمد صلى الله عليه وسلم في مكة ودفن في المدينة وولد كثيرٌ من الصّحابة في جزيرة العرب ودفنوا في بلاد الشام وغيرها.

التفاخر بالأجداد

كما أنّ نسب الشخص من أجداده الصالحين لا ينفعه عند الله وعند الناس إلّا إذا كان الشخص نفسه يشارك آباءه وأجداده الإيمان والعمل الصالح (والّذينَ آمنوا واتّبَعتهُم ذُرّيّتَهُم بإيمانٍ ألحقنا بِهِم ذُرّيّتَهُم وما أَلَتناهُم مِن عمَلِهِم من شيءٍ كُلُّ امرئٍ بما كسبَ رهين 21) الطور، فنسب ابن نوحٍ من أبيه لم يشفع له، وكذلك نسب والد إبراهيم منه (لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ3) الممتحنة، وفي الحديث: "من أبطأ به عمله لم يُسرِع به نسبه".

أساس التفاضل عند كفّار قريش كثرة الأموال والأولاد والجاه

وكثير من الناس عبر الزمان والمكان يعدّون أنّ مقياس التفاضل هو كثرة الأموال والأولاد، أو المنصب والجاه. وهذا مقياس فارغي العقول الذين لا يفقهون شيئاً، أوّلاً: لأنّ الرزق من عند الله ليس له علاقةٌ برضى الله عن الإنسان أو غضبه عليه، يوسّع على من يشاء امتحاناً وليس لكرامته عليه، ويضيّق على من يشاء ابتلاءً وليس لهوانه عليه. ثانياً: كثير من اللصوص والفاسدين أغنياء وما زالوا يزدادون في غناهم وهذه في الظاهر نعمة لكنها في الحقيقة نقمة لأنها ستكون سبب هلاكهم، وفي الحديث (إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه من الدنيا ما يحبّ فإنّما هو استدراج)، يظلون في غفلتهم حتى يفاجئهم الهلاك وحين يأتي لن يغني عنهم مالهم شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة كما حدث لقارون، بل ربّما يكون مالهم وبالاً عليهم (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ 55) التوبة، كذلك الجاه والسلطان ليسا مقياساً للتّفاضل (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ 28 هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ 29) الحاقّة

المقياس الربّاني للتّفاضل بين الأفراد

ما هو مقياس التفاضل إذاً؟ ماذا يقول ربّ النّاس وخالقهم، ربّ العالمين؟
(يا أيّها النّاسُ إنّا خَلَقناكُم من ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلناكُم شُعوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفوا إنّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقاكُم إنّ اللهَ عَليمٌ خَبير13) الحجرات

فجعلُ الناس شعوباً وقبائل وذكوراً وإناثاً هو عمليّة ترتيب وتنظيم وتواصل، ليتعارف النّاس ويعرفوا ما لهم وما عليهم، وجعل مقياس التفاضل بين إنسان وإنسان التقوى.
والتقوى هي اتّباع أوامر الله واجتناب نواهيه، فهذا ما يضمن للإنسان تحقيق إنسانيّته الكاملة، والسموّ بنفسه إلى أرقى درجات الحضارة وتنزيه نفسه عن الهمجيّة والحيوانيّة وهي تقتضي استشعار رقابة الله تعالى في كلّ وقتٍ وحين، فلا يتوقّف عن طلب رضى الله من خلال الأعمال الصالحة، ولا يقترب من الأعمال السيّئة حياءً من الله وخوفاً من عقابه.

وهذا مقياس عادل ومنطقي ومتاح لجميع البشر لأنه خاضع لاختيارهم وليس مثل العرق والجنس واللون والرزق أمر مفروض على الإنسان لا خيار له فيه، وهو مقياسٌ يليق بعدل الله تعالى وحكمته وربوبيّته.

ولهذا كان الأنبياء والرسل هم صفوة الله من خلقه، لأنّهم الأتقى وقدوة النّاس في التقوى.

المقياس الربّاني للتّفاضل بين الأمم والحضارات

هذا بالنّسبة للأفراد أمّا الأمم والحضارات، فجُعلت الأفضليّة للأمّة الأنفع للناس والأخدم لهم والأعدل والأعلم كيف تستفيد من هذا الكون الذي سخّره الله للإنسان لنفع الإنسان وهم شاكرون لله متواضعون لعظمته. فالله خلقنا لنعبده ونعمّر الأرض فمن نجح في ذلك كما أمره الله فقد فاز فوزاً عظيماً واستحقّ الأفضليّة بجدارة، والحضارة الإسلاميّة كانت مثالاً حيّاً على ذلك عبر 14 قرناً من الزمان (كُنتُم خَيرَ أمَّةٍ أُخرِجَت للنّاسِ تأمُرونَ بِالمَعروفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَر وَتُؤمِنونَ بِالله) 110 آل عمران

ولا يعني ذلك أن ينتسب الشخص للإسلام بالاسم فقط لكي يحرز الأفضليّة ولكنه الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح كما يحبّ الله ويرضى، ففي زمن النبيّ صلى الله عليه وسلّم لمّا تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، قال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم، نحن أحقّ بالله منكم. وقال المسلمون: نبيّنا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب، نزل قوله تعالى (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا 123 وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا 124) النساء.

أمّا نظريات التفاضل الأخرى والتي تُبنى على النسل والعرق والجنس واللون والأموال والأولاد والبنيان فقد أبطلها الله جميعاً وبنور الإسلام هدّم هذه العصبيّات تهديماً، فأخرج الناس من طور العشيرة والقبيلة إلى طور العالميّة والكونيّة، بحيث يكون انتماء المسلم وولاؤه أوّلاً وأخيراً للحقّ أينما وُجد، ويسمو عن مجرّد لون بشرة أو اسم قبيلة أو حدود وطن ليمتدّ ارتباطه إلى صفوة البشريّة منذ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلّم وكلّ من آمن معهم واتّبعهم في كلّ زمانٍ ومكان، ويعلم أنّ البشر حوله إمّا إخوة له في الدين أو نظراء له في الإنسانيّة.

وليس في الإسلام ولاء للقبيلة والعشيرة على حساب الولاء لله ورسوله، بل الولاء لله ورسوله ولو على حساب الولاء للعشيرة والقبيلة، قال الله تعالى: (لا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللهَ وَرَسولَهُ وَلَو كانوا آباءَهُم أو أبناءَهُم أو إخوانَهُم أو عَشيرَتَهُم أولئِكَ كَتَبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وأيّدَهُم بِروحٍ منهُ ويُدخِلُهُم جَنّاتٍ تجري مِن تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها رَضِيَ اللهُ عنهُم ورَضُوا عنهُ أولئكَ حِزبُ اللهِ أَلا إنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ المُفلِحون) 22 المجادلة

كيف انعكس هذا المقياس على حياة الناس وعلى الحضارة

وبالفعل عندما سطعت شمس الإسلام خنست كواكب الإثنيّات والحمائل والفسائل والعشائر والعصبيّات بكلّ أشكالها، وعلم النّاس أنه لا فضل لعربيّ على عجمي ولا لأبيض على أسود ولا لذكر على أنثى ولا لغنيٍّ على فقير ولا لفلان على فلان إلّا بالتّقوى، فمن أراد الشرف والمنزلة لا يقل (آبائي) ولا يقل (قبيلتي) ولا يقل (أموالي) ولا يقل (جيناتي) ولا يقل (خرافات أجدادي) بل ليعمل بقوله عزّ وجلّ (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم).

إليكم بعض المواقف النبيلة من الحضارة الإسلاميّة لنر سبب كونها خير أمّةٍ أخرجت للناس:

حين عيّر أبو ذرٍّ الغفاري بلالاً بأمّه قائلاً له: يا ابن السوداء، شكاه بلالٌ للنبي صلى الله عليه وسلّم فعاتبه على ذلك قائلاً له: إنّك امرؤ فيك جاهليّة. فندم أبو ذر ووضع خده على التراب .. وقال: والله يابلال لا أرفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك .. أنت الكريم وأنا المهان .. فقاما يبكيان ويتعانقان.

وحين ضرب ابن الوالي الرجل القبطي لأنّه غلبه في سباق الخيل قائلاً له: أنا ابن الأكرمين، شكاه القبطي لعمر بن الخطاب، فأعطاه عمر سوطاً وأمره بضرب ابن الوالي: (اضرب ابن الأكرمين) ثمّ قال للوالي وابنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟"

وفي عهد عمر بن عبد العزيز، باغت جيش المسلمين بقيادة قتيبة بن مسلم مدينة سمرقند الوثنيّة وفتحوها، وكان من عادتهم إذا أرادوا فتح مدينة أن يخيّروا أهلها بين الإسلام أو الجزية أو القتال، وليس المباغتة كما فعلوا، فاشتكى رهبان سمرقند للخليفة على الجيش، فنصّب الخليفةُ قاضياً فحكم قاضي المسلمين بخروج جميع المسلمين من المدينة خفافاً كما دخلوها، فخضع الجيش لحكم القاضي، وكان هذا العدل منقطع النظير سبباً في إسلام المدينة.

وحين حرّر صلاح الدين الأيّوبي بيت المقدس من أيدي الصّليبيّين عامل النصارى بمنتهى التسامح والرّحمة رغم معاملة الفرنج السيّئة للمسلمين طوال التسعين عاماً التي احتلّوا فيها بيت المقدس، فأوصل من رغب بمغادرة القدس إلى مأمنه، وأعان الفقراء والعجائز وداوى المرضى.

واستمرّ الحكم الإسلامي للهند أكثر من ثمانية قرون نعم الناس خلالها بالأمن والسلام والعدل والمساواة وازدهرت الحضارة، ومعابدهم التاريخيّة قائمةٌ حتّى اليوم تشهد على ذلك، نستطيع مقارنة ذلك بالقرنين اللذين حكمت فيهما بريطانيا الهند دمّرت خلالها نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومزّقتها وتركت أهلها شعوباً وقبائل الفقر والجهل أبرز سماتهم، كما نستطيع مقارنة تسامح الإسلام باحتلال إسبانيا للأندلس وإقامة محاكم التفتيش لفتنة الناس عن دينهم وإرغامهم على اعتناق الكاثوليكيّة.

لم تعرف الحضارة الإسلاميّة استعباد الشعوب وسرقة ثرواتهم واضطهادهم مثل باقي الحضارات الأخرى بل حضنتهم كالأم الحنون ليعيشوا في ظلالها كراماً آمنين، كيف لا ونحن نقرأ في القرآن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 8) المائدة، ونقرأ (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) 256 البقرة، ونقرأ (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 90) النحل، ونقرأ (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ 190) البقرة.

وممّا ذكره فقهاء المسلمين: (لو قتل مسلمٌ خنزيراً لمسلم أو أراق له خمراً فهَدَر، لأنّ هذه المحرّمات ليس لها قيمة في الإسلام، لكن لو قتل خنزيراً لذمّي أو أراق له خمراً فإنّه يغرّم لأنّهما مالٌ ذو قيمةٍ في دينهم). كتاب الإسلام، سعيد حوى

وصحيح أنّ الحضارة لم تخل من بعض الخلفاء الظلمة، ولكن ظلمهم لم يكن بسبب الإسلام بل بسبب البعد عن تعاليم الإسلام، وهم أقلّ من أن يُذكروا على كلّ حال، وكان العلماء المسلمون يقفون بالمرصاد لكل خليفةٍ تحدّثه نفسه بظلم.
فحين رأى السلطان سليم أنّ عدد أهل الكتاب في الدولة العثمانيّة زاد عن بضعة ملايين حدّثته نفسه أن يجد طريقةً يحدّ بها من تزايدهم ، فعزم على تخييرهم بين اعتناق الإسلام أو الطرد من أراضي الدولة العثمانيّة فوقف له العالم المؤمن علي أفندي الزنبيلي معترضاً قائلاً: ليس لنا على هؤلاء اليهود والنصارى إلّا الجزية ، فما داموا يؤدّونها فقد عصموا منّا دماءهم وأعراضهم وعبادتهم وما يعتقدون، فلا يحقّ لك أن تزعجهم في دينهم، ولا يحقّ لك أن تخرجهم من ديارهم. فرضخ السلطان سليم لحكم الإسلام. الموسوعة الميسّرة في التاريخ الإسلامي 2/ 410

هذا هو الدين الذي أهداه الله إلى النّاس وهذا هو أثر الدين في الناس وهنا يظهر التفاضل الحقيقي بين الناس والأمم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ 7 جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ 8) البيّنة.