-
الإسلام بعيون يهودية - بقلم:د. إبراهيم عوض (الرد على أكاذيب الموسوعة اليهودية)
الإسلام بعيون يهودية بقلم:د. إبراهيم عوض
تاريخ النشر : 2009-02-08
الإسلام بعيون يهودية
(مقالة "الإسلام" فى الموسوعة اليهودية)
د. إبراهيم عوض
تبدأ مقالة "الإسلام" فى "الموسوعة اليهودية: Jewish Encyclopedia" بتفسير هذا المصطلح بأنه "الخضوع لله"، وليس فى هذا ما يحتاج إلى تعقيب، فالمسلم يعمل فعلا على أن يخضع لأوامر الله ويبتعد عن نواهيه. بَيْدَ أن قول الكاتب بعد ذلك إن لفظ "إسلام" هو مصدرُ فعلٍ ينصب مفعولين (factitive) هو قول يحتاج إلى تعقيب. فهذا المصدر بالمعنى الذى بين أيدينا الآن مصدرُ فعلٍ لازمٍ. ذلك أن هذا الفعل فى قولنا مثلا: "أسلمتُ"، أى دخلت فى الإسلام، أو "أسلمتُ لله رب العالمين"، أى خضعت له سبحانه، لا يأخذ مفعولا به، فضلا عن أن يأخذ مفعولين اثنين. ولقد استخدم الكاتب الكلمة على النحو التالى: "submission to God"، بما يفيد أن الفعل لازم. صحيح أن الفعل فى قولنا: "أسلمتُ الطفلَ إلى أمه" يتعدى إلى مفعول، وأننا إذا أسقطنا حرف الجر فقلنا: "أسلمتُ الطفلَ أمَّه" تعدَّى إلى مفعولين، إلا أن معناه هنا يختلف عن معناه الذى نحن بصدده كما هو بَيِّن.
ثم يتحدث الكاتب عن بداية الدعوة الإسلامية قائلا إن الرسول بدأ بدعوة أهل مكة، ثم انتقل من ذلك إلى دعوة بلاد العرب كلهم، ثم بعد وفاته انتشر الإسلام على نطاق واسع خارج حدود الجزيرة. وهذا أيضا لا تعليق لنا عليه، اللهم إلا قوله فى خلال ذلك إن الإسلام قد حقق هذا الانتصار بفضل السيف. ذلك أنه كانت هناك فتوح، لا نكران لذلك، وهذه الفتوح قد وسّعت الأرض الخاضعة للدولة الجديدة، بيد أن هذا القول شىء، والقفز منه إلى أن الإسلام قد انتشر بالسيف شىء مختلف تماما. لكن الكاتب لا يبالى بهذه التفرقة التى من المؤكد أنه على وعى تام بها. ولو كان الأمر كما زعم لرأينا الشعوب التى فتح العرب بلادها تُكْرَه إكراها على اعتناق دين محمد عليه الصلاة والسلام كما حدث للمسلمين على يد النصارى فى بلاد الأندلس غِبَّ انتصارهم عليهم وقضائهم على دولتهم التى كانت موئلا للحرية الدينية، وكما حدث فى الأمريكتين حيث لم يعد هناك إلا النصرانية الوافدة بعد أن كان للهنود الحمر دينهم المختلف.
لكننا ننظر فنجد أن دخول تلك الشعوب فى الإسلام لم يكن فوريا، كما لم يتم تحت تهديد السيف، بل تم بمطلق حريتها، وأَخَذَ وقتا. فالإسلام لا يعرف الإكراه فى الدين، وقد نصت آياته على ذلك وأعلنتها صريحة مدوية: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (آل عمران/ 256)، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس/ 99)، "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ" (يونس/ 108)، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" (هود/ 118)، "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف/ 29)، "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)" (الغاشية)...
ولو كان هذا الذى يقوله الكاتب صحيحا لما قبل النبى من اليهود والنصارى الذين كانوا يساكنونه بلاد العرب إلا اعتناق دينه أو إعمال السيف فى رقابهم. بالعكس لقد كتب صلى الله عليه وسلم غداة وصوله إلى يثرب ما يسمى بـ"الصحيفة" بينه وبين يهود معطيا إياهم ذات الحقوق التى أعطيت لأتباعه، وموجبا عليهم نفس الواجبات التى حُمِّلها هؤلاء الأتباع. كما أنه لم يجبر على اعتناق الإسلام نصارى نجران حين أَتَوْا إلى المدينة ودخلوا معه فى مفاوضات وجدالات انتهت بتركه إياهم على ما هم عليه من دين وشعائر، وعادوا إلى بلادهم على هذا الوضع دون أن يتعرضوا منه لما يمس دينهم فى جليل أو حقير. وكان كل ما فعله معهم أنْ دعاهم إلى المباهلة، فلم يستجيبوا وخافوا أن ينزل الله عليهم عقابا من لدنه، مع إيثارهم فى ذات الوقت البقاء فى مناصبهم والمزايا التى تستتبعها هذه المناصب، فأقرهم النبى عليه السلام على ما أرادوا.
بل إن المسلمين مأمورون بحكم دينهم ونصوص كتابهم أن يكون جدالهم مع أهل الكتاب بالتى هى أحسن ما داموا لا يتعرضون لهم بظلم: "اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (النحل/ 125)، "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت/ 46). ويوصى الرسول أتباعه قائلا: "ألا من ظلم معاهَدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طِيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة"، "من آذى ذِمِّيًّا فأنا خَصْمُه". على أن الأمر لا يقف هنا، بل يعلن القرآن أنه لا ينهى المسلمين عن بر الكفار والإقساط والإحسان إليهم ما داموا لا يقاتلوننا فى الدين ولم يخرجونا من ديارنا: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)" (الممتحنة).
بل إن الكافر ذاته إذا استجار بالمسلمين فعليهم أن يجيروه حتى يسمع كلام الله ثم يبلغوه مأمنه معزَّزا مكرَّما: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ" (التوبة/ 6). صحيح أننا نقرأ فى القرآن المجيد مثل قوله تعالى: "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (التوبة/ 5)، لكننا ينبغى أن نعلم أن هذه الآية وأمثالها إنما تتعلق بالمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين عهود ثم غدروا بها، فهى إذن حالة حرب، وليس فى الحرب إلا غالب أو مغلوب، أو قاتل أو مقتول. ورغم هذا كان الإسلام أكثر من كريم معهم، إذ أعطاهم مهلة أربعة أشهر يسيحون خلالها فى الأرض براحتهم التامة قبل أن يعاملهم المسلمون بما يستحقونه بغدرهم وخيانتهم وتقتيلهم الأبرياء منهم. ورغم هذا أيضا كان الإسلام معهم أكثر جدا جدا من كريم لأنه لم ينفذ تهديداته هذه، بل كان قصده من ورائها التخويف أكثر منه التطبيق. وكانت النتيجة أنْ غزا الإسلام القلوب الجاسية وليَّن من قساوتها وكسبها لقضيته مكسبا عبقريا. أما الذين لم يخونوا العهود والمواثيق فعلى المسلمين أن يُوَفُّوهم عهودهم إلى مدتها: "إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة/ 4)، "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة/ 7).
ولست أظن أن المسلم يمكن أن يفكر فى إكراه أحد على اعتناق الإسلام، إذ إن دين محمد يقوم على خلوص النية، ولا يعتد بمظاهر الأشياء. نعم لا بد من استصحاب النية فى كل عمل يقوم به الواحد منا كى يكون مقبولا ومأجورا: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، و"رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر". وعلى هذا فليس من المفيد إجبار أحد على اعتناق الإسلام فى الوقت الذى نعرف أنه غير مخلص فى هذا الإسلام. بل لقد أتى على المسلمين حينٌ من الزمن كان بعضهم لا يرحب باعتناق غير المسلمين دينهم لتأثير هذا على دخل الخزينة كما حدث فى عصر عمر بن عبد العزيز، وهو ما أثار ثائرة الخليفة الورع على هذا الموقف القبيح من بعض رجال دولته، إذ كتب إليه حيّان عامله على مصر: إن الناس قد أسلموا فليس جزية. فكتب إليه عمر: أبعد الله الجزية! إن الله بعث محمدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا للجزية.
وحين يتناول كاتب المقالة مهمة النبى والدوافع التى حملته على الدعوة للدين الجديد نراه يقول: "The preaching of Mohammed as the messenger of God ("rasul Allah") owed its origin to the prophet's firm conviction of the approach of the Day of Judgment ("Yaum al-Din") and to his thorough belief in monotheism". فمرجع الأمر، حسبما يقول الكاتب، هو اقتناعه عليه الصلاة والسلام باقتراب يوم القيامة وإيمانه بالوحدانية فقط لا أنه اختير من الله سبحانه وتعالى لهذه المهمة اختيارا. فكأن الأمر أمر اقتناع شخصى بعد تفكير فى الأمر وتخطيط للدعوة. وهذا طبعا، رغم ما يبدو على ظاهره من مديح له صلى الله عليه وسلم، هو تكذيب لنبوته. ويمضى الكاتب فى عزف هذه النغمة التى تلح على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن نبيا، بل مصلحا ساءته الأوضاع التى كان يراها من حوله فنهض يدينها ويدعو إلى تغييرها. وهذا كل ما هنالك، فلا نبوة إذن ولا يحزنون. وأنا، حين أقول هذا، لا أصادر حق الكاتب فى أن يقول ما يشاء أو يعتقد ما يشاء، بل أريد أن أبين للقارئ المسلم كيف يفكر ذلك الرجل ومن أين يأتيه الخطأ، أو كيف نكشف زيف كلامه للناس ونبين ثغرات المنطق فيه وتنكبه للمنهج العلمى.
ولا يكتفى الكاتب بهذا، بل يمضى خطوة أبعد تكشف ما فى نفسه، إذ يزعم أن محمدا قد استمد دعوته من اليهودية والنصرانية، من بيئته المحيطة به ومن أسفاره خارج بلاد العرب على السواء: "through Jewish and Christian influences, to which he was subjected in his immediate surroundings as well as during the commercial journeys undertaken by him in his youth"، ليضيف بعد قليل أن معلّميه من أهل هاتين الديانتين هم رهبانٌ ويهودٌ نصفُ متعلمين، ومن ثم جاءت معرفته بهما ناقصة ومشوشة فاسدة.
وعبثا نسأل عن الدليل الذى يعتمد عليه الكاتب فى هذه الدعوى، إذ لا دليل البتة. ولو كان هذا الدليل موجودا لساق لنا الكاتب وقائع معينة بما دار فيها من حوارٍ ومَنْ حضَرها من شهود وما رُوِىَ عنها من حكايات. لكنه لم يورد لنا شيئا من ذلك. والسبب ببساطة شديدة أنه لم يحدث على الإطلاق شىء من ذلك. كما أن الوحدانية فى دين الإسلام هى وحدانية صافيةٌ نقيةٌ بِكْرٌ لم تمتد إليها يد بالعبث، وليس فيها شىء مسىء إلى الله ورسوله مما يحتويه العهد القديم فى كثير من المواضع.
لقد أسلمت الجزيرة العربية كلها والشام والعراق وفارس، وكان من بين من دخلوا فى الإسلام آنذاك، ولا يزال، كثير جدا من القساوسة والأحبار، وهو ما يعنى أنهم لم يجدوا عليه ريبة، وإلا ما أسلموا. وحتى الذين كانوا يكذّبونه ويتهمونه فى البداية قد أثبتوا بإسلامهم هذا أن الرسول صادق أمين تمام الصدق والأمانة. كذلك كان هناك منافقون ويهود ونصارى فى كل مكان من بلاد العرب، بالإضافة إلى المرتدين بعد وفاته وعلى رأسهم الأنبياء الكذبة وقوادهم العسكريون، ومع هذا لم نسمع من أحدهم كلمة يتيمة تقول عنه ما يقوله الكاتب المضلِّل. لقد كان كل ما قَدَر عليه اليهود فى عصره أنْ وضعوا أيديهم فى أيدى الوثنيين قائلين لهم: إن دينكم خير من دينه. وهكذا يكون الإخلاص اليهودى لقضية التوحيد الذى يزعم كاتبنا أن محمدا قد استقاه من يهود! كما نَكَلَ زعماء نصارى نجران عن مباهلة النبى حين طلب منهم ذلك حسما للخلاف بينه وبينهم، مُؤْثِرين دفع الجزية، إذ خافوا أن يعاقبهم الله جزاء كفرهم بمحمد، الذى كانوا يعرفون أنه نبى حقيقى، لكنهم لم يشاؤوا رغم ذلك أن يتنازلوا عن الامتيازات التى كانوا يرفلون فى نعيمها بسبب رئاستهم الدينية.
ثم لماذا لم يظهر أى شخص رغم توفر كل الدواعى التى تلح على ظهوره من هؤلاء الذين تعلم محمد على أيديهم ويقول: إننى أنا الذى علمته ما كان يجهل، أو إننى أنا الذى كان كثيرا ما يسألنى فأجيبه. الواقع أنه ليست هناك إلا رواية واحدة عن لقائه وهو صبى صغير ببحيرا الراهب على حدود بلاد العرب، وكل ما جرى حسب تلك الرواية هو تحذير الراهب لأبى طالب من غدر يهود بالطفل ونصيحته إياه أن يعود به أدراجه إلى مكة تجنبا لشرهم لو عرفوا أنه هو النبى المنتظر. ولقد أذكر أن توماس كارلايل كتب فى كتابه: "عن الأبطال وعبادة الأبطال: On Heroes and Hero Worship" يسخر من الأمر كله، إذ كيف لصبى لا يزيد عمره عن أربع عشرة سنة أن يتعلم دينا من الأديان كالإسلام فى مثل ذلك اللقاء العابر القصير، وبخاصة أنه لم تكن هناك لغة مشتركة بين الصبى ومعلمه المزعوم يمكن أن يتفاهما بها؟ وإنى لأهدى هذا السؤال إلى كاتبنا، وإن كنت أعرف الجواب سلفا، وهو أنه ليس لديه أى جواب! وهذا نص ما قاله كارلايل فى أصله الإنجليزى:
"I know not what to make of that "Sergius, the Nestorian Monk," whom Abu Thaleb and he are said to have lodged with; or how much any monk could have taught one still so young. Probably enough it is greatly exaggerated, this of the Nestorian Monk. Mahomet was only fourteen; had no language but his own".
وها نحن أولاء قد مر علينا حتى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان ولم نسمع إلا السخافات التى لا تقنع طفلا، مثل أن محمدا لم يكن إلا راهبا تمرد على الكنيسة بسبب من طموحه الشديد للزعامة واخترع مذهبا نصرانيا جديدا سماه: "الإسلام"، أو أنه صلى الله عليه وسلم مات فى نَوْبة سُكْرٍ بَيِّنٍ وأن جسده وُجِد مُلْقًى على كوم من الرَّوْث وقد أكلت منه الخنازير. ولا يقلّ عن هذا وذاك سخفًا ورقاعةً ما قرأناه فى السنوات الأخيرة من أنه صلى الله عليه وسلم لا وجود تاريخى له، بل هو مثل شرلوك هولمز، وكما أن هولمز ليس سوى نتاج قصصى خيالى فكذلك محمد، أو أن تعبير "الحور العين" المشهور ليس معناه النساء الجميلات اللاتى سيفوز بهن المؤمنون فى الجنة ويَفُزْنَ بهم، بل معناه "الزبيب الأبيض". يريد قائل هذا الكلام المضحك أن يشمت بالمجاهدين الذين يحاربون أمريكا وأتباعها من القوى الغربية فى بلاد العرب والمسلمين وأن يقول لهم إنهم سوف يأخذون مقلبا سخنا بعد أن يكونوا قد فقدوا حياتهم دون أن يحصلوا على شىء مما كانوا يتطلعون إلى الفوز به.
أما ما يدّعيه الكاتب على النبى الكريم من أن معرفته باليهودية والنصرانية مشوشة وفاسدة وناقصة لاستمداده إياها من أنصاف المتعلمين من رهبان ويهود فهى جرأة منقطعة النظير، إذ ما من شىء خالف فيه القرآن الكتاب المقدس إلا وكان الحق فى جانبه هو: خذ مثلا تصوير الكتاب المقدس لله على أنه قد خلق الكون فى ستة أيام شمسية وكأنه سبحانه وتعالى يعيش على الأرض معنا، أو كأن الشمس والقمر كانا قد خُلِقا وقتذاك، وهو ما لم يكن قد حدث، وأنه عز وجل يحتاج إلى الاستراحة بعد التعب الذى شعر به جَرّاء هذا الخلق، وأنه يندم وأن له أبناء وأنه يتجسد وأنه يتصارع مع عباده، أو أن أنبياءه يرتكبون جرائم الزنا ومضاجعة المحارم والقتل بدم بارد والغدر والحقد والدياثة وتسهيل عبادة الأصنام، ثم تعال إلى القرآن وانظر كيف يصحح هذا كله، وغيره كثير، بناءً على ما يقتضيه العقل والحق، ثم قل لنفسك: أى الكتابين يعطيك الصورة الصحيحة؟ وليس هذا كله سوى غَيْضٍ من فَيْض!
ومما يقوله الكاتب من أباطيل أيضا زعمه أن الرسول عليه الصلاة والسلام عند هجرته إلى المدينة قد بدأ بالتودد إلى اليهود طمعا فى إسلامهم، إلا أنه انقلب عليهم حين لم يستجيبوا لهذا التودد على النحو الذى كان يأمله. ومن مظاهر التودد المزعوم اتخاذه بيت المقدس قبلة للصلاة وصومه يوم عاشوراء. والواقع أن الكاتب يهرف بما يعرف أنه أكاذيب. ذلك أن الاتجاه إلى بيت المقدس فى الصلاة يرجع إلى ما قبل الهجرة. كل ما فى الأمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل الكعبة بينه وبين ذلك البيت.
وأما صوم عاشوراء فهو لم يفعله توددا إليهم، وإلا ما قال إن المسلمين أحق بصيامه منهم، وإن موسى لو كان حيًّا ماوسعه إلا اتباعه، وهو كلام يعبر بكل وضوح وحسم عن لامبالاته بهم: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيما له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم. ثم أمر بصومه"، "والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا اتباعي". كذلك فالقرآن يعجّ فى المرحلة المكية بالهجوم على اليهود ويفضح خزيهم، فكيف يقول الكاتب إن الرسول بدأ حياته فى يثرب بالتودد إليهم؟ ترى ما الذى كان يمثله اليهود للنبى عليه الصلاة والسلام حتى يقال إنه كان يتودد إليهم؟
كذلك فالزعم بأنه صلى الله عليه وسلم جرى فى إثرهم وحرّم لحم الخنزير كما يحرمونه هو كذب مفضوح، إذ إن تحريم الخنزير يرجع إلى ما قبل الهجرة، أى قبل اتصاله عليه السلام باليهود كما يدَّعِى الكاتب. وها هى ذى آيات سورتى "الأنعام" و"النحل" على التوالى تقول ذلك بلسان واضح لا يحتمل لبسا ولا شرحا، وهى من الوحى المكى: "قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آَبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)"، "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)". وغنىٌّ عن البيان أن القرآن قد أعلن أنه لا يوافق على ما يحرّمه اليهود على أنفسهم مما لم ينزل بتحريمه نص سماوى، بل يوافق فقط على ما حرمه الله سبحانه عليهم. أقول هذا لأن الكاتب يزعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان فى بداية هجرته إلى المدينة يحرم ما يحرمه اليهود، لكنه انقلب عليهم حين وجد منهم عنادا ورفضا لنبوته. وهذا كله غير صحيح البتة.
وبعد عدة فقرات سوف يعود الكاتب إلى هذا الموضوع فيزعم مرة أخرى أن الرسول قد استعار كثيرا من شعائر اليهودية وتشريعاتها، ثم يحيل القارئ إلى القرآن للتأكد من صدق ما يقول، لكن دون تحديد سورة أو آية معينة، بل القرآن بإطلاق. وهو يفعل هذا بثقة يُحْسَد عليها وكأن القرآن يقول فعلا إن الرسول كان يأخذ من اليهود أشياء يضعها فى دينه ثم يزعم أنها من عند الله! ومع هذا فنحن نوافقه على أن كثيرا من الروايات اليهودية قد تسربت فيما بعد إلى الكتابات الإسلامية عن طريق اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، وهو ما يسمى بـ"الإسرائيليات"، فلا أحد يُشَاحّ فى هذا. إلا أن علماء المسلمين يقفون لمثل تلك الروايات بالمرصاد فينصّون عليها ويوصون بإهمالها. على أنه لا بد من التنبيه رغم هذا إلى أن الإسلام لا يمكن أن يخالف العهد القديم فى كل شىء، إذ لم يقل أحد إنه لم يبق فى ذلك الكتاب شىء على أصله السماوى. وما دام الإسلام هو من عند الله فلا بد أن تكون هناك أشياء مشتركة بين الديانتين، وهى الأشياء التى لم تمتد إليها يد التحريف من جهة، ولم تُنْسَخ فى شريعتنا من جهة أخرى.
كذلك تحدث الكاتب عن السبت فقال، ويا ليته ما قال، إن الرسول اعترض على مراعاة اليهود ليوم السبت. والحقيقة أن القرآن، على العكس، قد شن عليهم حملة تفضح نفاقهم ومراوغتهم وعدم التزامهم بحرمة السبت، وكان ذلك منذ المرحلة المكية. أقول هذا حتى لا يسارع الكاتب إلى الزعم كالعادة بأن الرسول إنما فعل ذلك ردا على كفر اليهود برسالته. وها هى ذى النصوص المكية تقول ذلك بأجلى بيان: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الامِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الارْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الادْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)" (الأعراف)، "إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (النحل/ 124). صحيح أنه عليه السلام حين اختار يوما أسبوعيا للمسلمين قد اختار الجمعة، لكن هذه مسألة أخرى.
كذلك لا داعى للرد على زعم الكاتب أن الرسول قد استلهم صلوات اليهود الثلاث عندما شرع الصلوات الخمس بعد أن أضاف إليها صلاتين أخريين أخذهما من الفارسيين. ذلك أننى لو مضيت أرد على كل زعم يزعمه دون أدنى دليل فلن أنتهى. ويبقى قوله إن اليهود يعظمون السبت لأنه اليوم الذى استراح الله فيه من خلق الكون. ولا تعليق لى على هذا الكلام الذى لا يليق به جل وعلا، والذى يقوله العهد القديم ذاته، ودعنا من أنه لم يكن هناك سبت ولا أحد، لأن الأفق الإلهى لا يخضع للتقويم الأرضى كما يفهم ذلك كل عاقل، فضلا عن أن الواحد من الأيام الستة التى خلق الله فيها الكون لا يقاس بالساعات، بل يستغرق أحقابا متطاولة.
ومن العجيب أن ينسب الكاتب ما يقوله كثير من المسلمين من أن الذبيح الذى أراد إبراهيم أن يذبحه هو ابنه إسماعيل لا إسحاق، إلى يهودى ماكر دخل فى الإسلام وأراد التزلف إلى رفاقه الجدد. إى والله هكذا يقول الكاتب، وكأن الأمر بحاجة إلى مكر وتزلف، وليس موجودا فى العهد القديم ذاته، الذى نطالع فيه ما يلى: "1وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا». 2فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ». 3فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ، وَأَخَذَ اثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ، وَإِسْحَاقَ ابْنَهُ، وَشَقَّقَ حَطَبًا لِمُحْرَقَةٍ، وَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ. 4وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ الْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيدٍ، 5فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِغُلاَمَيْهِ: «اجْلِسَا أَنْتُمَا ههُنَا مَعَ الْحِمَارِ، وَأَمَّا أَنَا وَالْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَنَسْجُدُ، ثُمَّ نَرْجعُ إِلَيْكُمَا». 6فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ حَطَبَ الْمُحْرَقَةِ وَوَضَعَهُ عَلَى إِسْحَاقَ ابْنِهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ النَّارَ وَالسِّكِّينَ. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا. 7وَكَلَّمَ إِسْحَاقُ إِبْرَاهِيمَ أَبِاهُ وَقَالَ: «يَا أَبِي!». فَقَالَ: «هأَنَذَا يَا ابْنِي». فَقَالَ: «هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» 8فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي». فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا. 9فَلَمَّا أَتَيَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ، بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ الْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ الْحَطَبَ وَرَبَطَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ فَوْقَ الْحَطَبِ. 10ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ. 11فَنَادَاهُ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «إِبْرَاهِيمُ! إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا» 12فَقَالَ: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي». 13فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ. 14فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذلِكَ الْمَوْضِعِ «يَهْوَهْ يِرْأَهْ». حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: «فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى»". فها نحن أولاء نقرأ أن الابن الذى يأمره الله سبحانه بأخذه وذبحه هو "وحيده". وهذه الكلمة لا يمكن أن تنطبق على إسحاق لأن إسحاق حين وُلِد كان هناك قبله إسماعيل ببضعة عشر عاما فلم يكن "وحيد" أبيه فى أى يوم من الأيام، بخلاف إسماعيل، الذى كان "وحيد" أبيه طيلة هذه المدة. فهو إذن الوحيد الذى ينطبق عليه القول بأنه هو "الذبيح".
وبالنسبة إلى "النسخ" الذى يَعْزُوه كاتبنا إلى ما يقول إنه مخالفة النبى لبعض تشريعات التوراة، أى نسخ الإسلام لها، نقول إن الأناجيل قد ذكرت أن المسيح سبق إلى هذا عندما قال: قد سمعتم أنه قيل للقدماء كذا وكذا، لكنى أقول كيت وكيت. بمعنى أن التشريعات الفلانية التى ورد النَّصّ عليها فى التوراة قد أتى هو صلى الله عليه وسلم فبدّلها إلى تشريعات أخرى. لكن الكاتب كدَيْدَنه يتجاهل مثل تلك الحقائق التاريخية ظنا منه أن باستطاعته النيل من الرسول محمد ودينه. وبعد المسيح نرى بولس يعمل نفس الشىء فيبدل بعض التشريعات بدوره.
كذلك يتجاهل الكاتب حقائق التاريخ كما تسجلها آيات القرآن فنراه يدعى أن الرسول بدأ رسالته بوصفه نبيا عربيا، ثم انتهى فى المدينة بإعلان نفسه نبيا عالميا. ووجه الضلال فى هذا أن الآيات المكية تنص على عالمية الرسالة المحمدية منذ وقت بعيد كما سبق بيانه، ومن ثم فلا لزوم لإيراد تلك النصوص التى لا أظنه إلا يعلمها تمام العلم، لكنه يتجاهلها ظنا منه أن بمستطاعه التشويش على الحقائق التى لا تقبل الجدال. وبالمثل لا لزوم لإعادة الاستشهاد بالآيات التى تدل دلالة قاطعة على أن الإسلام لا يعرف الحرب من أجل فرض العقيدة على أحد، بل للرد فقط على من يعتدون على المسلمين وبلادهم. ذلك أنه قد سبق أيضا الاستشهاد بعدد من تلك الآيات آنفا. ومما يضحك الثكالى قول الكاتب إن صورة الصلاة بعدد ما فيها من ركوع وسجود لم تستقر على هذا الوضع الذى نعرفه إلا بعد زمن طويل من وفاة الرسول يبلغ قرنا كاملا. وهو ادعاء لا أصل له ولا فصل.
وهناك أيضا زعمه أن الفقه الإسلامى قد تاثر تأثرا كبيرا بالفقهين الرومانى واليهودى. وهذا بدوره كلام مرسل لا دليل، أىّ دليل، عليه. ومن المعيب أن يكون هذا هو المستوى العلمى لمقالة على هذا النحو من الأهمية فى موسوعة عالمية كان ينبغى أن تُسْنِد كتابة تلك المقالة لعالم يضن بالمنهجية العلمية أن تُنْتَهَك بهذا الشكل المزرى. ولقد تعرضتُ بالنقد المفصَّل لدعوى تأثر الفقه الإسلامى بفقه الرومان فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل واباطيل"، فيمكن أن يرجع إليه من يشاء للوقوف على ما قلته فى تلك القضية.
ورغم ذلك كله نرى المؤلف يبدى دهشته الشديدة (المبطنة بشعور الإعجاب، أو بالأحرى: بشعور الحسد) لما يراه بحق شيئا لا مثيل له فى التاريخ، ألا وهو هذا الانتشار البَرْقِىّ للإسلام حتى لقد غطى المساحة الممتدة من أقصى شرق آسيا إلى أقصى الشمال الغربى من أفريقيا، فضلا عن شبه جزيرة أيبريا فى أوربا وغيرها من البلاد، فى بضع عشرات من الأعوام. إلا أن القلب ينفطر حين يتطلع الإنسان منا حوله فيجد هذا الخمول الضارب بأطنابه فى العالم العربى والإسلامى، والذى أغرى وما زال يغرى كلاب الاستعمار بالوثوب على بلاد المسلمين واحتلالها كلما واتتهم الفرصة واستذلالهم وتكبيلهم بالقيود الـمُشِلَّة. لكن ماذا نقول، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس كما يقول القرآن الكريم؟ ومع ذلك فإن هذا القانون الإلهى لا يعطى للمسلمين الحق فى العذر لأنه إنما يعكس نتائج عملنا أو خمولنا، وجِدّنا أو هزلنا، ولا يُفْرَض فرضا من قِبَل السماء. هذا، ولا أدرى السر فى أن الكاتب حين أراد أن يعطينا إحصائية عن عدد المسلمين فى العالم عاد القهقرى إلى عام 1897م حيث لم يكونوا أزيد عن ربع المليار إلا قليلا. ومعروف أنهم فى الوقت الحالىّ لا يقصّرون كثيرا عن المليارين كما تم توضيحه فى غير هذا الموضع من الكتاب الحالىّ.
ومرة أخرى يعود كاتبنا إلى الحديث عن العلاقة بين الإسلام واليهودية فيقول إن القرآن كثيرا ما يصب لعنته على اليهود. وسبب ذلك فى نظره هو رفضهم الانضواء تحت رايته. وهذا غير صحيح، فإن القرآن المكى، أى قبل أن يتصل بهم الرسول فى المدينة بعد هجرته إليها، لا يعطينا أبدا صورة مشرقة عنهم. ومعنى ذلك أن هذا هو رأى الإسلام فى اليهود على الدوام. إنه رأى مبدئى لا صلة بينه وبين الأحداث التى وقعت بين الطرفين فى المدينة. كما أن لعن القرآن لهم إنما سببه تطاولهم على الله سبحانه لا مجرد كفرهم به، كقولهم: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، أو "يد الله مغلولة"، أو قولهم عن كفار قريش وما هم عليه من وثنية: "هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا". وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فلم يحدث قط أن حَمِدَ شعب من الشعوب أمة اليهود بعدما بَلاَ أخلاقها وسلوكها وعقيدتها فى نفسها وفى الآخرين. ويكفى أنهم ينظرون إلى غيرهم نظرتهم إلى حيوانات لا قيمة لها ولا حق، وأنهم يعدون الله ربا خاصا بهم دون سواهم من العالمين.
ولماذا نذهب بعيدا، وها هو ذا العهد القديم يجلجل فى كثير من صفحاته تقريبا بلعن بنى إسرائيل وسبهم ووصفهم بأشنع الصفات؟ ترى أكان لمحمد عليه السلاوة والسلام دخل فى ذلك؟ أبدا، ذلك أن اللاعنين أو موصّلى اللعنة الإلهية إلى بنى إسرائيل إنما هم أنبياء بنى إسرائيل أنفسهم وليس أى شخص آخر. ثم جاء عيسى عليه السلام، فلم يكن حظهم معه أفضل من حظهم مع من سبقه من أنبياء، فها هى ذى الأناجيل الأربعة تدمدم بكلمات الغضب النارى المنصب من فمه الطاهر الشريف صلى الله عليه وسلم على يوافيخهم الصلبة المتمردة؟ أولا يعرف الكاتب ذلك كله؟ بلى يعرف ذلك وأكثر من ذلك، إلا أنه يظن بنفسه الذكاء واللوذعية والمقدرة على خداع الناس، ولكن هيهات، فحقائق التاريخ والحياة لا يمكن التعفية عليها مهما تكلف فى ذلك المتكلفون!
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة إدريسي في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 12-09-2014, 12:15 PM
-
بواسطة نيو في المنتدى الإعجاز العلمي فى القرأن الكريم والسنة النبوية
مشاركات: 21
آخر مشاركة: 03-07-2014, 11:01 AM
-
بواسطة إدريسي في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 02-07-2010, 02:24 AM
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-04-2008, 12:51 PM
-
بواسطة الحاتمي في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 45
آخر مشاركة: 20-02-2007, 03:00 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات