الإسلام بعيون يهودية بقلم:د. إبراهيم عوض

تاريخ النشر : 2009-02-08

الإسلام بعيون يهودية
‏(مقالة "الإسلام" فى الموسوعة اليهودية)‏


د. إبراهيم عوض

تبدأ مقالة "الإسلام" فى "الموسوعة اليهودية: ‏Jewish ‎Encyclopedia‏" بتفسير هذا المصطلح بأنه "الخضوع لله"، وليس فى ‏هذا ما يحتاج إلى تعقيب، فالمسلم يعمل فعلا على أن يخضع لأوامر الله ‏ويبتعد عن نواهيه. بَيْدَ أن قول الكاتب بعد ذلك إن لفظ "إسلام" هو ‏مصدرُ فعلٍ ينصب مفعولين (‏factitive‏) هو قول يحتاج إلى تعقيب. فهذا ‏المصدر بالمعنى الذى بين أيدينا الآن مصدرُ فعلٍ لازمٍ. ذلك أن هذا الفعل ‏فى قولنا مثلا: "أسلمتُ"، أى دخلت فى الإسلام، أو "أسلمتُ لله رب ‏العالمين"، أى خضعت له سبحانه، لا يأخذ مفعولا به، فضلا عن أن يأخذ ‏مفعولين اثنين. ولقد استخدم الكاتب الكلمة على النحو التالى: ‏‏"‏submission to God‏"، بما يفيد أن الفعل لازم. صحيح أن الفعل ‏فى قولنا: "أسلمتُ الطفلَ إلى أمه" يتعدى إلى مفعول، وأننا إذا أسقطنا ‏حرف الجر فقلنا: "أسلمتُ الطفلَ أمَّه" تعدَّى إلى مفعولين، إلا أن معناه هنا ‏يختلف عن معناه الذى نحن بصدده كما هو بَيِّن. ‏

ثم يتحدث الكاتب عن بداية الدعوة الإسلامية قائلا إن الرسول ‏بدأ بدعوة أهل مكة، ثم انتقل من ذلك إلى دعوة بلاد العرب كلهم، ثم بعد ‏وفاته انتشر الإسلام على نطاق واسع خارج حدود الجزيرة. وهذا أيضا لا ‏تعليق لنا عليه، اللهم إلا قوله فى خلال ذلك إن الإسلام قد حقق هذا ‏الانتصار بفضل السيف. ذلك أنه كانت هناك فتوح، لا نكران لذلك، ‏وهذه الفتوح قد وسّعت الأرض الخاضعة للدولة الجديدة، بيد أن هذا ‏القول شىء، والقفز منه إلى أن الإسلام قد انتشر بالسيف شىء مختلف ‏تماما. لكن الكاتب لا يبالى بهذه التفرقة التى من المؤكد أنه على وعى تام ‏بها. ولو كان الأمر كما زعم لرأينا الشعوب التى فتح العرب بلادها تُكْرَه ‏إكراها على اعتناق دين محمد عليه الصلاة والسلام كما حدث للمسلمين ‏على يد النصارى فى بلاد الأندلس غِبَّ انتصارهم عليهم وقضائهم على ‏دولتهم التى كانت موئلا للحرية الدينية، وكما حدث فى الأمريكتين حيث لم ‏يعد هناك إلا النصرانية الوافدة بعد أن كان للهنود الحمر دينهم المختلف. ‏

لكننا ننظر فنجد أن دخول تلك الشعوب فى الإسلام لم يكن ‏فوريا، كما لم يتم تحت تهديد السيف، بل تم بمطلق حريتها، وأَخَذَ وقتا. ‏فالإسلام لا يعرف الإكراه فى الدين، وقد نصت آياته على ذلك وأعلنتها ‏صريحة مدوية: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (آل عمران/ ‏‏256)، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ‏حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس/ 99)، "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ ‏رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا ‏عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ" (يونس/ 108)، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا ‏يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" (هود/ 118)، ‏‏"وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف/ 29)، ‏‏"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)" (الغاشية)... ‏

ولو كان هذا الذى يقوله الكاتب صحيحا لما قبل النبى من اليهود ‏والنصارى الذين كانوا يساكنونه بلاد العرب إلا اعتناق دينه أو إعمال ‏السيف فى رقابهم. بالعكس لقد كتب صلى الله عليه وسلم غداة ‏وصوله إلى يثرب ما يسمى بـ"الصحيفة" بينه وبين يهود معطيا إياهم ذات ‏الحقوق التى أعطيت لأتباعه، وموجبا عليهم نفس الواجبات التى حُمِّلها ‏هؤلاء الأتباع. كما أنه لم يجبر على اعتناق الإسلام نصارى نجران حين أَتَوْا ‏إلى المدينة ودخلوا معه فى مفاوضات وجدالات انتهت بتركه إياهم على ‏ما هم عليه من دين وشعائر، وعادوا إلى بلادهم على هذا الوضع دون أن ‏يتعرضوا منه لما يمس دينهم فى جليل أو حقير. وكان كل ما فعله معهم أنْ ‏دعاهم إلى المباهلة، فلم يستجيبوا وخافوا أن ينزل الله عليهم عقابا من ‏لدنه، مع إيثارهم فى ذات الوقت البقاء فى مناصبهم والمزايا التى تستتبعها ‏هذه المناصب، فأقرهم النبى عليه السلام على ما أرادوا. ‏

بل إن المسلمين مأمورون بحكم دينهم ونصوص كتابهم أن يكون ‏جدالهم مع أهل الكتاب بالتى هى أحسن ما داموا لا يتعرضون لهم بظلم: ‏‏"اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ ‏أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" ‏‏(النحل/ 125)، "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ‏ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت/ 46). ويوصى الرسول أتباعه قائلا: "ألا ‏من ظلم معاهَدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير ‏طِيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة"، "من آذى ذِمِّيًّا فأنا خَصْمُه". على ‏أن الأمر لا يقف هنا، بل يعلن القرآن أنه لا ينهى المسلمين عن بر الكفار ‏والإقساط والإحسان إليهم ما داموا لا يقاتلوننا فى الدين ولم يخرجونا من ‏ديارنا: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ ‏دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ‏اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى ‏إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)" (الممتحنة).‏

بل إن الكافر ذاته إذا استجار بالمسلمين فعليهم أن يجيروه حتى ‏يسمع كلام الله ثم يبلغوه مأمنه معزَّزا مكرَّما: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا ‏يَعْلَمُونَ" (التوبة/ 6). صحيح أننا نقرأ فى القرآن المجيد مثل قوله تعالى: ‏‏"فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ ‏وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ ‏فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (التوبة/ 5)، لكننا ينبغى أن نعلم أن ‏هذه الآية وأمثالها إنما تتعلق بالمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين ‏عهود ثم غدروا بها، فهى إذن حالة حرب، وليس فى الحرب إلا غالب أو ‏مغلوب، أو قاتل أو مقتول. ورغم هذا كان الإسلام أكثر من كريم معهم، إذ ‏أعطاهم مهلة أربعة أشهر يسيحون خلالها فى الأرض براحتهم التامة قبل ‏أن يعاملهم المسلمون بما يستحقونه بغدرهم وخيانتهم وتقتيلهم الأبرياء ‏منهم. ورغم هذا أيضا كان الإسلام معهم أكثر جدا جدا من كريم لأنه لم ‏ينفذ تهديداته هذه، بل كان قصده من ورائها التخويف أكثر منه التطبيق. ‏وكانت النتيجة أنْ غزا الإسلام القلوب الجاسية وليَّن من قساوتها وكسبها ‏لقضيته مكسبا عبقريا. أما الذين لم يخونوا العهود والمواثيق فعلى المسلمين ‏أن يُوَفُّوهم عهودهم إلى مدتها: "إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ ‏يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة/ 4)، "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ ‏وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ ‏فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة/ 7).‏

ولست أظن أن المسلم يمكن أن يفكر فى إكراه أحد على اعتناق ‏الإسلام، إذ إن دين محمد يقوم على خلوص النية، ولا يعتد بمظاهر ‏الأشياء. نعم لا بد من استصحاب النية فى كل عمل يقوم به الواحد منا ‏كى يكون مقبولا ومأجورا: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. ‏فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت ‏هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، و"رُبَّ ‏صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا ‏السهر". وعلى هذا فليس من المفيد إجبار أحد على اعتناق الإسلام فى ‏الوقت الذى نعرف أنه غير مخلص فى هذا الإسلام. بل لقد أتى على ‏المسلمين حينٌ من الزمن كان بعضهم لا يرحب باعتناق غير المسلمين دينهم ‏لتأثير هذا على دخل الخزينة كما حدث فى عصر عمر بن عبد العزيز، ‏وهو ما أثار ثائرة الخليفة الورع على هذا الموقف القبيح من بعض رجال ‏دولته، إذ كتب إليه حيّان عامله على مصر: إن الناس قد أسلموا فليس ‏جزية. فكتب إليه عمر: أبعد الله الجزية! إن الله بعث محمدًا هاديًا، ولم ‏يبعثه جابيًا للجزية.‏

وحين يتناول كاتب المقالة مهمة النبى والدوافع التى حملته على ‏الدعوة للدين الجديد نراه يقول: "‏The preaching of Mohammed ‎as the messenger of God ("rasul Allah") owed its ‎origin to the prophet's firm conviction of the ‎approach of the Day of Judgment ("Yaum al-Din") ‎and to his thorough belief in monotheism‏". فمرجع ‏الأمر، حسبما يقول الكاتب، هو اقتناعه عليه الصلاة والسلام باقتراب يوم ‏القيامة وإيمانه بالوحدانية فقط لا أنه اختير من الله سبحانه وتعالى لهذه ‏المهمة اختيارا. فكأن الأمر أمر اقتناع شخصى بعد تفكير فى الأمر ‏وتخطيط للدعوة. وهذا طبعا، رغم ما يبدو على ظاهره من مديح له ‏صلى الله عليه وسلم، هو تكذيب لنبوته. ويمضى الكاتب فى عزف هذه ‏النغمة التى تلح على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن نبيا، بل مصلحا ‏ساءته الأوضاع التى كان يراها من حوله فنهض يدينها ويدعو إلى تغييرها. ‏وهذا كل ما هنالك، فلا نبوة إذن ولا يحزنون. وأنا، حين أقول هذا، لا ‏أصادر حق الكاتب فى أن يقول ما يشاء أو يعتقد ما يشاء، بل أريد أن ‏أبين للقارئ المسلم كيف يفكر ذلك الرجل ومن أين يأتيه الخطأ، أو كيف ‏نكشف زيف كلامه للناس ونبين ثغرات المنطق فيه وتنكبه للمنهج العلمى.‏
ولا يكتفى الكاتب بهذا، بل يمضى خطوة أبعد تكشف ما فى ‏نفسه، إذ يزعم أن محمدا قد استمد دعوته من اليهودية والنصرانية، من ‏بيئته المحيطة به ومن أسفاره خارج بلاد العرب على السواء: "‏through ‎Jewish and Christian influences, to which he was ‎subjected in his immediate surroundings as well as ‎during the commercial journeys undertaken by him ‎in his youth‏"، ليضيف بعد قليل أن معلّميه من أهل هاتين الديانتين هم ‏رهبانٌ ويهودٌ نصفُ متعلمين، ومن ثم جاءت معرفته بهما ناقصة ومشوشة ‏فاسدة.‏


‏ وعبثا نسأل عن الدليل الذى يعتمد عليه الكاتب فى هذه ‏الدعوى، إذ لا دليل البتة. ولو كان هذا الدليل موجودا لساق لنا الكاتب ‏وقائع معينة بما دار فيها من حوارٍ ومَنْ حضَرها من شهود وما رُوِىَ عنها ‏من حكايات. لكنه لم يورد لنا شيئا من ذلك. والسبب ببساطة شديدة ‏أنه لم يحدث على الإطلاق شىء من ذلك. كما أن الوحدانية فى دين ‏الإسلام هى وحدانية صافيةٌ نقيةٌ بِكْرٌ لم تمتد إليها يد بالعبث، وليس فيها ‏شىء مسىء إلى الله ورسوله مما يحتويه العهد القديم فى كثير من المواضع. ‏
لقد أسلمت الجزيرة العربية كلها والشام والعراق وفارس، وكان من ‏بين من دخلوا فى الإسلام آنذاك، ولا يزال، كثير جدا من القساوسة ‏والأحبار، وهو ما يعنى أنهم لم يجدوا عليه ريبة، وإلا ما أسلموا. وحتى ‏الذين كانوا يكذّبونه ويتهمونه فى البداية قد أثبتوا بإسلامهم هذا أن الرسول ‏صادق أمين تمام الصدق والأمانة. كذلك كان هناك منافقون ويهود ‏ونصارى فى كل مكان من بلاد العرب، بالإضافة إلى المرتدين بعد وفاته ‏وعلى رأسهم الأنبياء الكذبة وقوادهم العسكريون، ومع هذا لم نسمع من ‏أحدهم كلمة يتيمة تقول عنه ما يقوله الكاتب المضلِّل. لقد كان كل ما قَدَر ‏عليه اليهود فى عصره أنْ وضعوا أيديهم فى أيدى الوثنيين قائلين لهم: إن ‏دينكم خير من دينه. وهكذا يكون الإخلاص اليهودى لقضية التوحيد ‏الذى يزعم كاتبنا أن محمدا قد استقاه من يهود! كما نَكَلَ زعماء نصارى ‏نجران عن مباهلة النبى حين طلب منهم ذلك حسما للخلاف بينه وبينهم، ‏مُؤْثِرين دفع الجزية، إذ خافوا أن يعاقبهم الله جزاء كفرهم بمحمد، الذى ‏كانوا يعرفون أنه نبى حقيقى، لكنهم لم يشاؤوا رغم ذلك أن يتنازلوا عن ‏الامتيازات التى كانوا يرفلون فى نعيمها بسبب رئاستهم الدينية.


ثم لماذا لم يظهر أى شخص رغم توفر كل الدواعى التى تلح على ‏ظهوره من هؤلاء الذين تعلم محمد على أيديهم ويقول: إننى أنا الذى علمته ‏ما كان يجهل، أو إننى أنا الذى كان كثيرا ما يسألنى فأجيبه. الواقع أنه ‏ليست هناك إلا رواية واحدة عن لقائه وهو صبى صغير ببحيرا الراهب ‏على حدود بلاد العرب، وكل ما جرى حسب تلك الرواية هو تحذير ‏الراهب لأبى طالب من غدر يهود بالطفل ونصيحته إياه أن يعود به أدراجه ‏إلى مكة تجنبا لشرهم لو عرفوا أنه هو النبى المنتظر. ولقد أذكر أن توماس ‏كارلايل كتب فى كتابه: "عن الأبطال وعبادة الأبطال: ‏On Heroes ‎and Hero Worship‏" يسخر من الأمر كله، إذ كيف لصبى لا يزيد ‏عمره عن أربع عشرة سنة أن يتعلم دينا من الأديان كالإسلام فى مثل ذلك ‏اللقاء العابر القصير، وبخاصة أنه لم تكن هناك لغة مشتركة بين الصبى ‏ومعلمه المزعوم يمكن أن يتفاهما بها؟ وإنى لأهدى هذا السؤال إلى كاتبنا، ‏وإن كنت أعرف الجواب سلفا، وهو أنه ليس لديه أى جواب! وهذا نص ‏ما قاله كارلايل فى أصله الإنجليزى:‏
‎ "I know not what to make of that "Sergius, the ‎Nestorian Monk," whom Abu Thaleb and he are said ‎to have lodged with; or how much any monk could ‎have taught one still so young. Probably enough it ‎is greatly exaggerated, this of the Nestorian Monk. ‎Mahomet was only fourteen; had no language but ‎his own".‎‏ ‏


وها نحن أولاء قد مر علينا حتى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا ‏من الزمان ولم نسمع إلا السخافات التى لا تقنع طفلا، مثل أن محمدا لم يكن ‏إلا راهبا تمرد على الكنيسة بسبب من طموحه الشديد للزعامة واخترع ‏مذهبا نصرانيا جديدا سماه: "الإسلام"، أو أنه صلى الله عليه وسلم مات ‏فى نَوْبة سُكْرٍ بَيِّنٍ وأن جسده وُجِد مُلْقًى على كوم من الرَّوْث وقد أكلت ‏منه الخنازير. ولا يقلّ عن هذا وذاك سخفًا ورقاعةً ما قرأناه فى السنوات ‏الأخيرة من أنه صلى الله عليه وسلم لا وجود تاريخى له، بل هو مثل ‏شرلوك هولمز، وكما أن هولمز ليس سوى نتاج قصصى خيالى فكذلك ‏محمد، أو أن تعبير "الحور العين" المشهور ليس معناه النساء الجميلات ‏اللاتى سيفوز بهن المؤمنون فى الجنة ويَفُزْنَ بهم، بل معناه "الزبيب ‏الأبيض". يريد قائل هذا الكلام المضحك أن يشمت بالمجاهدين الذين ‏يحاربون أمريكا وأتباعها من القوى الغربية فى بلاد العرب والمسلمين وأن ‏يقول لهم إنهم سوف يأخذون مقلبا سخنا بعد أن يكونوا قد فقدوا حياتهم ‏دون أن يحصلوا على شىء مما كانوا يتطلعون إلى الفوز به. ‏

أما ما يدّعيه الكاتب على النبى الكريم من أن معرفته باليهودية ‏والنصرانية مشوشة وفاسدة وناقصة لاستمداده إياها من أنصاف المتعلمين ‏من رهبان ويهود فهى جرأة منقطعة النظير، إذ ما من شىء خالف فيه ‏القرآن الكتاب المقدس إلا وكان الحق فى جانبه هو: خذ مثلا تصوير ‏الكتاب المقدس لله على أنه قد خلق الكون فى ستة أيام شمسية وكأنه ‏سبحانه وتعالى يعيش على الأرض معنا، أو كأن الشمس والقمر كانا قد ‏خُلِقا وقتذاك، وهو ما لم يكن قد حدث، وأنه عز وجل يحتاج إلى ‏الاستراحة بعد التعب الذى شعر به جَرّاء هذا الخلق، وأنه يندم وأن له ‏أبناء وأنه يتجسد وأنه يتصارع مع عباده، أو أن أنبياءه يرتكبون جرائم الزنا ‏ومضاجعة المحارم والقتل بدم بارد والغدر والحقد والدياثة وتسهيل عبادة ‏الأصنام، ثم تعال إلى القرآن وانظر كيف يصحح هذا كله، وغيره كثير، بناءً ‏على ما يقتضيه العقل والحق، ثم قل لنفسك: أى الكتابين يعطيك الصورة ‏الصحيحة؟ وليس هذا كله سوى غَيْضٍ من فَيْض! ‏
ومما يقوله الكاتب من أباطيل أيضا زعمه أن الرسول عليه الصلاة ‏والسلام عند هجرته إلى المدينة قد بدأ بالتودد إلى اليهود طمعا فى ‏إسلامهم، إلا أنه انقلب عليهم حين لم يستجيبوا لهذا التودد على النحو ‏الذى كان يأمله. ومن مظاهر التودد المزعوم اتخاذه بيت المقدس قبلة ‏للصلاة وصومه يوم عاشوراء. والواقع أن الكاتب يهرف بما يعرف أنه ‏أكاذيب. ذلك أن الاتجاه إلى بيت المقدس فى الصلاة يرجع إلى ما قبل ‏الهجرة. كل ما فى الأمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل الكعبة بينه ‏وبين ذلك البيت. ‏


وأما صوم عاشوراء فهو لم يفعله توددا إليهم، وإلا ما قال إن ‏المسلمين أحق بصيامه منهم، وإن موسى لو كان حيًّا ماوسعه إلا اتباعه، ‏وهو كلام يعبر بكل وضوح وحسم عن لامبالاته بهم: "لما قدم النبي صلى ‏الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، ‏فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ‏ونحن نصومه تعظيما له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أولى ‏بموسى منكم. ثم أمر بصومه"، "والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ‏ما وسعه إلا اتباعي". كذلك فالقرآن يعجّ فى المرحلة المكية بالهجوم على ‏اليهود ويفضح خزيهم، فكيف يقول الكاتب إن الرسول بدأ حياته فى يثرب ‏بالتودد إليهم؟ ترى ما الذى كان يمثله اليهود للنبى عليه الصلاة والسلام ‏حتى يقال إنه كان يتودد إليهم؟ ‏

كذلك فالزعم بأنه صلى الله عليه وسلم جرى فى إثرهم وحرّم ‏لحم الخنزير كما يحرمونه هو كذب مفضوح، إذ إن تحريم الخنزير يرجع إلى ما ‏قبل الهجرة، أى قبل اتصاله عليه السلام باليهود كما يدَّعِى الكاتب. وها ‏هى ذى آيات سورتى "الأنعام" و"النحل" على التوالى تقول ذلك بلسان ‏واضح لا يحتمل لبسا ولا شرحا، وهى من الوحى المكى: "قُلْ لا أَجِدُ فِي ‏مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ‏أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ‏وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ‏ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ‏الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ ‏كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏‏(147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آَبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا ‏مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ ‏عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)"، "إِنَّمَا ‏حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ ‏غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ‏أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ ‏يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏‏(117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ‏وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)". وغنىٌّ عن البيان أن القرآن قد أعلن ‏أنه لا يوافق على ما يحرّمه اليهود على أنفسهم مما لم ينزل بتحريمه نص ‏سماوى، بل يوافق فقط على ما حرمه الله سبحانه عليهم. أقول هذا لأن ‏الكاتب يزعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان فى بداية هجرته إلى ‏المدينة يحرم ما يحرمه اليهود، لكنه انقلب عليهم حين وجد منهم عنادا ‏ورفضا لنبوته. وهذا كله غير صحيح البتة. ‏

وبعد عدة فقرات سوف يعود الكاتب إلى هذا الموضوع فيزعم ‏مرة أخرى أن الرسول قد استعار كثيرا من شعائر اليهودية وتشريعاتها، ثم ‏يحيل القارئ إلى القرآن للتأكد من صدق ما يقول، لكن دون تحديد سورة ‏أو آية معينة، بل القرآن بإطلاق. وهو يفعل هذا بثقة يُحْسَد عليها وكأن ‏القرآن يقول فعلا إن الرسول كان يأخذ من اليهود أشياء يضعها فى دينه ثم ‏يزعم أنها من عند الله! ومع هذا فنحن نوافقه على أن كثيرا من الروايات ‏اليهودية قد تسربت فيما بعد إلى الكتابات الإسلامية عن طريق اليهود ‏الذين اعتنقوا الإسلام، وهو ما يسمى بـ"الإسرائيليات"، فلا أحد يُشَاحّ فى ‏هذا. إلا أن علماء المسلمين يقفون لمثل تلك الروايات بالمرصاد فينصّون ‏عليها ويوصون بإهمالها. على أنه لا بد من التنبيه رغم هذا إلى أن الإسلام ‏لا يمكن أن يخالف العهد القديم فى كل شىء، إذ لم يقل أحد إنه لم يبق فى ‏ذلك الكتاب شىء على أصله السماوى. وما دام الإسلام هو من عند الله ‏فلا بد أن تكون هناك أشياء مشتركة بين الديانتين، وهى الأشياء التى لم ‏تمتد إليها يد التحريف من جهة، ولم تُنْسَخ فى شريعتنا من جهة أخرى.‏

كذلك تحدث الكاتب عن السبت فقال، ويا ليته ما قال، إن ‏الرسول اعترض على مراعاة اليهود ليوم السبت. والحقيقة أن القرآن، على ‏العكس، قد شن عليهم حملة تفضح نفاقهم ومراوغتهم وعدم التزامهم ‏بحرمة السبت، وكان ذلك منذ المرحلة المكية. أقول هذا حتى لا يسارع ‏الكاتب إلى الزعم كالعادة بأن الرسول إنما فعل ذلك ردا على كفر اليهود ‏برسالته. وها هى ذى النصوص المكية تقول ذلك بأجلى بيان: "قُلْ يَا أَيُّهَا ‏النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ لا إِلَهَ ‏إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الامِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ‏وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ‏وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى ‏مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا ‏عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ‏الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ ‏يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ‏وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏‏(161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ ‏رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ ‏حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا ‏وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ ‏أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً ‏إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ ‏عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) ‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ ‏رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ‏الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الارْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ ‏الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏‏(168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا ‏الادْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ ‏مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاخِرَةُ ‏خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا ‏الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ‏وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏‏(171)" (الأعراف)، "إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ ‏لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (النحل/ 124). صحيح ‏أنه عليه السلام حين اختار يوما أسبوعيا للمسلمين قد اختار الجمعة، لكن ‏هذه مسألة أخرى. ‏

كذلك لا داعى للرد على زعم الكاتب أن الرسول قد استلهم ‏صلوات اليهود الثلاث عندما شرع الصلوات الخمس بعد أن أضاف إليها ‏صلاتين أخريين أخذهما من الفارسيين. ذلك أننى لو مضيت أرد على كل ‏زعم يزعمه دون أدنى دليل فلن أنتهى. ويبقى قوله إن اليهود يعظمون ‏السبت لأنه اليوم الذى استراح الله فيه من خلق الكون. ولا تعليق لى على ‏هذا الكلام الذى لا يليق به جل وعلا، والذى يقوله العهد القديم ذاته، ‏ودعنا من أنه لم يكن هناك سبت ولا أحد، لأن الأفق الإلهى لا يخضع ‏للتقويم الأرضى كما يفهم ذلك كل عاقل، فضلا عن أن الواحد من الأيام ‏الستة التى خلق الله فيها الكون لا يقاس بالساعات، بل يستغرق أحقابا ‏متطاولة.‏

ومن العجيب أن ينسب الكاتب ما يقوله كثير من المسلمين من أن ‏الذبيح الذى أراد إبراهيم أن يذبحه هو ابنه إسماعيل لا إسحاق، إلى يهودى ‏ماكر دخل فى الإسلام وأراد التزلف إلى رفاقه الجدد. إى والله هكذا ‏يقول الكاتب، وكأن الأمر بحاجة إلى مكر وتزلف، وليس موجودا فى العهد ‏القديم ذاته، الذى نطالع فيه ما يلى: "1وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ ‏امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا». 2فَقَالَ: «خُذِ ‏ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ ‏هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ». 3فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا ‏وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ، وَأَخَذَ اثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ، وَإِسْحَاقَ ابْنَهُ، وَشَقَّقَ ‏حَطَبًا لِمُحْرَقَةٍ، وَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ. 4وَفِي الْيَوْمِ ‏الثَّالِثِ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ الْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيدٍ، 5فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِغُلاَمَيْهِ: ‏‏«اجْلِسَا أَنْتُمَا ههُنَا مَعَ الْحِمَارِ، وَأَمَّا أَنَا وَالْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ ‏وَنَسْجُدُ، ثُمَّ نَرْجعُ إِلَيْكُمَا». 6فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ حَطَبَ الْمُحْرَقَةِ وَوَضَعَهُ عَلَى ‏إِسْحَاقَ ابْنِهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ النَّارَ وَالسِّكِّينَ. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا. 7وَكَلَّمَ ‏إِسْحَاقُ إِبْرَاهِيمَ أَبِاهُ وَقَالَ: «يَا أَبِي!». فَقَالَ: «هأَنَذَا يَا ابْنِي». فَقَالَ: ‏‏«هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» 8فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: ‏‏«اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي». فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا. 9فَلَمَّا أَتَيَا ‏إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ، بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ الْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ الْحَطَبَ ‏وَرَبَطَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ فَوْقَ الْحَطَبِ. 10ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ ‏يَدَهُ وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ. 11فَنَادَاهُ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: ‏‏«إِبْرَاهِيمُ! إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا» 12فَقَالَ: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ ‏وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ ‏وَحِيدَكَ عَنِّي». 13فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي ‏الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ‏ابْنِهِ. 14فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذلِكَ الْمَوْضِعِ «يَهْوَهْ يِرْأَهْ». حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: ‏‏«فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى»". فها نحن أولاء نقرأ أن الابن الذى يأمره الله ‏سبحانه بأخذه وذبحه هو "وحيده". وهذه الكلمة لا يمكن أن تنطبق على ‏إسحاق لأن إسحاق حين وُلِد كان هناك قبله إسماعيل ببضعة عشر عاما ‏فلم يكن "وحيد" أبيه فى أى يوم من الأيام، بخلاف إسماعيل، الذى كان ‏‏"وحيد" أبيه طيلة هذه المدة. فهو إذن الوحيد الذى ينطبق عليه القول ‏بأنه هو "الذبيح". ‏

وبالنسبة إلى "النسخ" الذى يَعْزُوه كاتبنا إلى ما يقول إنه مخالفة ‏النبى لبعض تشريعات التوراة، أى نسخ الإسلام لها، نقول إن الأناجيل قد ‏ذكرت أن المسيح سبق إلى هذا عندما قال: قد سمعتم أنه قيل للقدماء ‏كذا وكذا، لكنى أقول كيت وكيت. بمعنى أن التشريعات الفلانية التى ورد ‏النَّصّ عليها فى التوراة قد أتى هو صلى الله عليه وسلم فبدّلها إلى ‏تشريعات أخرى. لكن الكاتب كدَيْدَنه يتجاهل مثل تلك الحقائق التاريخية ‏ظنا منه أن باستطاعته النيل من الرسول محمد ودينه. وبعد المسيح نرى ‏بولس يعمل نفس الشىء فيبدل بعض التشريعات بدوره. ‏

كذلك يتجاهل الكاتب حقائق التاريخ كما تسجلها آيات القرآن ‏فنراه يدعى أن الرسول بدأ رسالته بوصفه نبيا عربيا، ثم انتهى فى المدينة ‏بإعلان نفسه نبيا عالميا. ووجه الضلال فى هذا أن الآيات المكية تنص ‏على عالمية الرسالة المحمدية منذ وقت بعيد كما سبق بيانه، ومن ثم فلا ‏لزوم لإيراد تلك النصوص التى لا أظنه إلا يعلمها تمام العلم، لكنه يتجاهلها ‏ظنا منه أن بمستطاعه التشويش على الحقائق التى لا تقبل الجدال. وبالمثل ‏لا لزوم لإعادة الاستشهاد بالآيات التى تدل دلالة قاطعة على أن الإسلام لا ‏يعرف الحرب من أجل فرض العقيدة على أحد، بل للرد فقط على من ‏يعتدون على المسلمين وبلادهم. ذلك أنه قد سبق أيضا الاستشهاد بعدد ‏من تلك الآيات آنفا. ومما يضحك الثكالى قول الكاتب إن صورة الصلاة ‏بعدد ما فيها من ركوع وسجود لم تستقر على هذا الوضع الذى نعرفه إلا ‏بعد زمن طويل من وفاة الرسول يبلغ قرنا كاملا. وهو ادعاء لا أصل له ولا ‏فصل.

وهناك أيضا زعمه أن الفقه الإسلامى قد تاثر تأثرا كبيرا بالفقهين ‏الرومانى واليهودى. وهذا بدوره كلام مرسل لا دليل، أىّ دليل، عليه. ‏ومن المعيب أن يكون هذا هو المستوى العلمى لمقالة على هذا النحو من ‏الأهمية فى موسوعة عالمية كان ينبغى أن تُسْنِد كتابة تلك المقالة لعالم يضن ‏بالمنهجية العلمية أن تُنْتَهَك بهذا الشكل المزرى. ولقد تعرضتُ بالنقد ‏المفصَّل لدعوى تأثر الفقه الإسلامى بفقه الرومان فى كتابى: "دائرة المعارف ‏الإسلامية الاستشراقية- أضاليل واباطيل"، فيمكن أن يرجع إليه من يشاء ‏للوقوف على ما قلته فى تلك القضية. ‏


ورغم ذلك كله نرى المؤلف يبدى دهشته الشديدة (المبطنة ‏بشعور الإعجاب، أو بالأحرى: بشعور الحسد) لما يراه بحق شيئا لا مثيل ‏له فى التاريخ، ألا وهو هذا الانتشار البَرْقِىّ للإسلام حتى لقد غطى ‏المساحة الممتدة من أقصى شرق آسيا إلى أقصى الشمال الغربى من ‏أفريقيا، فضلا عن شبه جزيرة أيبريا فى أوربا وغيرها من البلاد، فى بضع ‏عشرات من الأعوام. إلا أن القلب ينفطر حين يتطلع الإنسان منا حوله ‏فيجد هذا الخمول الضارب بأطنابه فى العالم العربى والإسلامى، والذى ‏أغرى وما زال يغرى كلاب الاستعمار بالوثوب على بلاد المسلمين واحتلالها ‏كلما واتتهم الفرصة واستذلالهم وتكبيلهم بالقيود الـمُشِلَّة. لكن ماذا نقول، ‏وتلك الأيام يداولها الله بين الناس كما يقول القرآن الكريم؟ ومع ذلك فإن ‏هذا القانون الإلهى لا يعطى للمسلمين الحق فى العذر لأنه إنما يعكس نتائج ‏عملنا أو خمولنا، وجِدّنا أو هزلنا، ولا يُفْرَض فرضا من قِبَل السماء. ‏هذا، ولا أدرى السر فى أن الكاتب حين أراد أن يعطينا إحصائية عن ‏عدد المسلمين فى العالم عاد القهقرى إلى عام 1897م حيث لم يكونوا أزيد ‏عن ربع المليار إلا قليلا. ومعروف أنهم فى الوقت الحالىّ لا يقصّرون كثيرا ‏عن المليارين كما تم توضيحه فى غير هذا الموضع من الكتاب الحالىّ.‏

ومرة أخرى يعود كاتبنا إلى الحديث عن العلاقة بين الإسلام ‏واليهودية فيقول إن القرآن كثيرا ما يصب لعنته على اليهود. وسبب ذلك ‏فى نظره هو رفضهم الانضواء تحت رايته. وهذا غير صحيح، فإن القرآن ‏المكى، أى قبل أن يتصل بهم الرسول فى المدينة بعد هجرته إليها، لا ‏يعطينا أبدا صورة مشرقة عنهم. ومعنى ذلك أن هذا هو رأى الإسلام فى ‏اليهود على الدوام. إنه رأى مبدئى لا صلة بينه وبين الأحداث التى وقعت ‏بين الطرفين فى المدينة. كما أن لعن القرآن لهم إنما سببه تطاولهم على الله ‏سبحانه لا مجرد كفرهم به، كقولهم: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، أو "يد ‏الله مغلولة"، أو قولهم عن كفار قريش وما هم عليه من وثنية: "هؤلاء ‏أهدى من الذين آمنوا سبيلا". وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فلم يحدث ‏قط أن حَمِدَ شعب من الشعوب أمة اليهود بعدما بَلاَ أخلاقها وسلوكها ‏وعقيدتها فى نفسها وفى الآخرين. ويكفى أنهم ينظرون إلى غيرهم ‏نظرتهم إلى حيوانات لا قيمة لها ولا حق، وأنهم يعدون الله ربا خاصا بهم ‏دون سواهم من العالمين. ‏

ولماذا نذهب بعيدا، وها هو ذا العهد القديم يجلجل فى كثير من ‏صفحاته تقريبا بلعن بنى إسرائيل وسبهم ووصفهم بأشنع الصفات؟ ترى ‏أكان لمحمد عليه السلاوة والسلام دخل فى ذلك؟ أبدا، ذلك أن اللاعنين ‏أو موصّلى اللعنة الإلهية إلى بنى إسرائيل إنما هم أنبياء بنى إسرائيل ‏أنفسهم وليس أى شخص آخر. ثم جاء عيسى عليه السلام، فلم يكن ‏حظهم معه أفضل من حظهم مع من سبقه من أنبياء، فها هى ذى الأناجيل ‏الأربعة تدمدم بكلمات الغضب النارى المنصب من فمه الطاهر الشريف ‏صلى الله عليه وسلم على يوافيخهم الصلبة المتمردة؟ أولا يعرف الكاتب ‏ذلك كله؟ بلى يعرف ذلك وأكثر من ذلك، إلا أنه يظن بنفسه الذكاء ‏واللوذعية والمقدرة على خداع الناس، ولكن هيهات، فحقائق التاريخ ‏والحياة لا يمكن التعفية عليها مهما تكلف فى ذلك المتكلفون!‏