قوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) :
ويستدلون بهذه الآية على أنه:
1- (لا يجوز إكراه أحد في دينه ، قال الله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256)، بل إن الإسلام نفسه لا يصح مع الإكراه).
2- (أن لكل شعب قيمه وتقاليده الخاصة التي اختارها ، فنحن لا نكرهه على تركها ، ذلك أن ديننا علمنا أن لا إكراه في الدين ).
3-(أن تبنّي الدولة ( أيُ دولة ) للدين الإسلامي ليس معناه التدخل في خصوصيات الأقليات وإجبارها على التخلي عن دينها وإكراهها على الدخول في الإسلام فقد استقر في وعي المسلم وعُلِمَ من صريح آيات القرآن أن لا إكراه في الدين ) .


* والكلام على هذا من وجوه :
الوجه الأول : أن الإكراه على الدين قد يراد به الإكراه على (الاعتقاد) ، وقد يراد به الإكراه على (الالتزام بالحكم) :
فقد دلت الآية نفسها على أن المراد بعدم الإكراه هنا هو (الإكراه على الاعتقاد) ، وذلك بقرينة قوله تعالى بعد هذا (قد تبين الرشد من الغي) ، وذلك إنما يدل على إرادة الاعتقاد ، ويبقى الإكراه على الالتزام بحكم الإسلام قائماً لم يخصه دليل ، لقوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) ونحوها من آيات القتال والجهاد .
قال ابن حزم رحمه الله تعالى على هذه الآية :
" والدين في القرآن واللغة : يكون الشريعة ، ويكون الحكم ، ويكون الجزاء :
1-فالجزاء في الآخرة : إلى الله تعالى لا إلينا .
2-والشريعة : قد صح أن نقرهم على ما يعتقدون إذا كانوا أهل كتاب.
3-فبقي الحكم : فوجب أن يكون كله حكم الله كما أمر".

وقال القرطبي رحمه الله :
"قوله تعالى (لا إكراه في الدين) : الدين في هذه الآية : المعتقد والملة ؛ بقرينة قوله (قد تبين الرشد من الغي) ".
فعلى هذا : فقولهم (إننا لا نكره شعباً على التخلي عن قيمه الخاصة) ، و (لا نتدخل في خصوصيات الأقليات) غير صحيح ، بل يلزمون بالامتثال لشريعة الإسلام فيما يتعلق بأحكام أهل الذمة كما مر .
على أن نفي الإكراه على الاعتقاد أيضاً لا يصح ، وهذا هو :
الوجه الثاني : وهو أن إطلاق القول بعدم الإكراه في الدين باطل ، وذلك أن مسألة الإكراه في الدين على قسمين :
القسم الأول : الإكراه على الدخول في الإسلام :
القسم الثاني : الإكراه على التزام حكم الإسلام :
أما القسم الأول : وهو الإكراه على الدخول في الإسلام :
فينقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم يكره فيه بالاتفاق ، وقسم يكره فيه عند الجمهور ، وقسم لا يكره فيه بالاتفاق :
أما الأول : فهو نوعان :
1- المرتد عن الإسلام :
فإنه يقتل بالإجماع إذا ارتد ، ووقع الخلاف في الاستتابة قبل القتل ، وفيمن تقبل منه التوبة ، إلا أن الإجماع وقع على عدم تركه .
ومن أشهر أعمال الصحابة رضي الله عنهم بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم حروب المرتدين ، وهي الحروب التي عناها قوله تعالى - كما ذكر كثير من المفسرين - (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) فلم يذكر غير هذين الخيارين.

2- المشرك العربي :
قال أبو عبيد رحمه الله :
" تتابعت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده في العرب من أهل الشرك أن من كان منهم ليس من أهل الكتاب فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل".
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله :
" أجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العرب ، ولم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف " .
وقال ابن حزم رحمه الله :
" لم يختلف مسلمان في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من الوثنيين من العرب إلا الإسلام أو السيف إلى أن مات عليه السلام فهو إكراه في الدين".
فهذا النوعان يكره فيهما بالاتفاق ، ويدل عليه أدلة كثيرة منها :
قوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم).
وقوله تعالى (ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يسلمون) كما سبق.
والحديث المتفق عليه مرفوعاً (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ...الحديث ).
وما في البخاري أيضاً مرفوعاً (من بدل دينه فاقتلوه) ، وغيرها من النصوص .
وأما الثاني : فهو الكافر من غير أهل الكتاب والمجوس :
فقد ذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية إلى أن كل كافر ليس كتابياً أو مجوسياً فإنه يقاتل حتى يسلم ، فلا يقر على دينه ولو بالجزية مطلقاً .
ودليلهم في ذلك قوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) ، وآيات الجهاد والقتال في سبيل الله المطلقة.
وحديث ابن عمر المشهور مرفوعاً (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ، ونحوها من النصوص .
وقالوا : إن آية الجزية إنما خصت أهل الكتاب في قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ).
فيبقى غير أهل الكتاب على الأصل في عدم قبول غير الإسلام منهم .
وأما الثالث : فهو الكافر من أهل الكتاب والمجوسي :
فقد وقع الاتفاق في الجملة على أنه يقر على دينه بالجزية ، وهو الالتزام بأحكام الإسلام وهو المراد بـ :
القسم الثاني : وهو الإكراه على التزام حكم الإسلام :
فيكره جميع الكفار – ممن تقبل منهم الجزية – على التزام أحكام الإسلام المعروفة عند أهل العلم بـ(أحكام أهل الذمة) .
ويدل عليه قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) .
وما ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : (اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم).
ويبقى هاهنا تنبيه :
وهو أن هذا الإقرار بالجزية تحت حكم الإسلام إنما هو حكم مؤقت إلى نزول المسيح عليه السلام ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا له من الدنيا وما فيها) وفي رواية (يقاتل الناس على الإسلام).
وعلى ذلك فيكون الإكراه على الدخول في الإسلام ذلك الوقت على جميع الكفار ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام ، أو السيف.
الوجه الثالث : أن هذه الآية ليست على ظاهرها بإجماع المسلمين _ وهذ يظهر مما سبق _ سواء قيل بنسخها أو لا ، ولم يستدل بها أحد من علماء الإسلام على ترك الإكراه على الدين بإطلاق ، ولم يستدل بها أحد على ترك الإلزام بأحكام أهل الذمة لمن أقر منهم في بلاد الإسلام بالجزية ، وقد ذكر في معنى الآية نحواً من ستة أقوال ، و ليس فيها قول واحد أخذ بظاهرها في جميع الكفار ، وقد قال ابن جرير رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأقوال في الآية :
"وأولى هذه الأقوال بالصواب : قول من قال : نزلت هذه الآية في خاص من الناس ، وقال : عنى بقوله تعالى ذكره (لا إكراه في الدين ) أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق وأخذ الجزية منه ، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا ، وإنما قلنا : هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ؛ لما قد دللنا عليه في كتابنا (كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام) : من أن الناسخ غير كائن ناسخاً إلا ما نفى حكم المنسوخ فلم يجز اجتماعهما ، فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي وباطنه الخصوص فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل ، وإذ كان ذلك كذلك ، وكان غير مستحيل أن يقال لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين ، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك ، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الإسلام قوماً فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام ، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه ، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب ، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ، ومن أشبههم ، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل ، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم ، كان بينّاً بذلك أن معنى قوله (لا إكراه في الدين) إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ورضاه بحكم الإسلام".
وقال ابن حزم رحمه الله عن هذه الآية :
"لم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذه الآية ليست على ظاهرها ؛ لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد عن دينه ".
الوجه الرابع : قولهم (إن الإسلام نفسه لا يصح مع الإكراه) لا يصح على إطلاقه كما سبق :
فإسلام المرتد والوثني من العرب يصح منه بالإجماع ، والكافر غير الكتابي والمجوسي يصح منه عند الجمهور .
قال ابن رجب رحمه الله :
" وأما الإكراه بحق : فهو غير مانع من لزوم ما أكره عليه ، فلو أكره الحربي على الإسلام فأسلم ، صح إسلامه ".
الوجه الخامس : قولهم (وقيم خاصة بشعب معين آثرها واختارها فنحن لا نكرهه على تركها ، ذلك أن ديننا علمنا أن لا إكراه في الدين ) ، وقولهم (وتبنّي الدولة للدين الإسلامي ليس معناه التدخل في خصوصيات الأقليات ) ، لا يصح أيضاً :
وذلك أن الكفار الذين يقرون على دينهم في بلاد الإسلام يلزمون بأحكام (أهل الذمة) وهي أحكام معروفة في كتب الفقه وأجمع عليها الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم في الجملة ومن أحكام أهل الذمة التدخل في خصوصيات الأقليات ، والإجبار على ترك بعض القيم ، فمن الشروط العمرية المشهورة عليهم : (ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقادم رءوسنا ، وأن نلزم زينا حيثما كان ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا ، ولا نظهر صليبا ، ولا كتبا من كتب ديننا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين) وغيرها .