مقارنات
من أراد أن يعرف فضل التسامح الإسلامي، ويعرف سماحة المسلمين على بصيرة، فليقرأ ما فعلته الأديان والعقائد والأخرى مع مخالفيها على مدى التاريخ ؟ فالضدُّ يُظهر حسنَه الضدُّ.
بل ليقرأ ثم يقرأ موقف أصحاب العقائد اللادينية الحديثة، ودعاة "الأيديولوجيات" الانقلابية في القرن العشرين، ليرى ماذا فعلوا بخصومهم؟
وكيف عاملوا ويعاملون مخالفيهم في المذهب والاتجاه؟! بل ماذا صنعوا ويصنعون بزملائهم في الفكرة، ورفقائهم في الكفاح، إذا خالفوا عن رأيهم، أو فكروا غير تفكيرهم؟!
أجل.. ليقرأ بإمعان ماذا سجل التاريخ للمسلمين حينما فتحوا الأندلس، ثم ماذا سجله لخصومهم الأسبان من النصارى، حينما قُدِّر لهم أن ينتصروا عليهم، بعد ثمانية قرون عَمَّروا فيها بلاد الأندلس بالعلم والنور، وأقاموا فيها حضارة باهى بها التاريخ.
ليقرأ وليدرس كيف يعيش المسلمون في عصرنا هذا ـ عصر النور والحضارة والأمم المتحدة والمحافل الدولية، وحقوق الإنسان ـ في البلاد التي تحكمها حكومات نصرانية متعصبة أو شيوعية ملحدة، أو هندوسية متزمتة؟‍
لينظر إلى المسلمين في الحبشة مثلاً وما يقاسونه من عنت واضطهاد وإهدار للحقوق الإنسانية، مع أنهم يكونون أغلبية السكان، ولهم أقاليم إسلامية خالصة لا يشاركهم فيها غيرهم.

(انظر: كتاب "مأساة الإسلام الجريح في الحبشة" وكذلك التقرير الذي كتبه طالبان أزهريان من الحبشة عن وضع المسلمين هناك، ونشره الشيخ محمد الغزالي في كتاب "كفاح دين" تحت عنوان "ذئاب الحبشة تنهش الإسلام". وانظر: كتاب "اريتريا والحبشة" في سلسلة مواطن الشعوب الإسلامية للأستاذ محمود شاكر، نشر مكتبة الأقصى ـ عمان).
ولينظر كذلك إلى المسلمين في روسيا (انظر: فصل "أحوال المسلمين في الاتحاد السوفييتي" من كتاب "الإسلام في وجه الزحف الأحمر" للشيخ محمد الغزالي) أو يوغسلافيا أو الصين أو غيرها من البلاد الاشتراكية الماركسية.
إن المسلمين يكونون في بعض الجمهوريات في روسيا وبعض الأقاليم في يوغوسلافيا والصين أكثرية ساحقة في عدد السكان. ومع هذا يمنعون من أداء ما يعتقدون وجوبه كالصلوات الخمس والحج إلى بيت الله الحرام والتفقه في الدين وإنشاء المساجد التي تقام فيها شعائر الإسلام والمعاهد التي تمد هذه المساجد بالأئمة والمعلمين والخطباء. وأن يحكموا أنفسهم بشريعة ربهم التي يؤمنون بوجوب التحاكم إليها دون غيرها.
أجل.. إن المنصف لا يتبين قيمة ما قدمه الإسلام للإنسانية في مجال التسامح مع المخالفين في الدين، ما لم يدرس ماذا قدمته العقائد أو "الأيديولوجيات" العلمانية المعاصرة، والعقائديون الجدد في هذا الباب.
إن القسوة والاضطهاد، والتعذيب والتنكيل، والتشريد والتقتيل، والإبادة الجماعية، والإرهاب المستمر، لن يسمح له بالبقاء ـ كل هذا لا يقع شذوذًا أو فلتة، أو نزولاً على حكم الضرورة، بل إن العنف والاضطهاد الوحشي للمخالفين يمثل سياسة ثابتة دائمة، قائمة على فلسفة نظرية لا تكتفي بتبرير العنف فقط، بل توجبه وتحتمه (تقوم فلسفة الثوريين من الشيوعييين وأمثالهم على أن العنف في ذاته ضروري للتثقيف الانقلابي، ولرعاية "الديناميك" الثوري، وحفظ نقاء وصفاء هذا الديناميك. الحركة ـ كما قالوا ـ تعتمد العنف هنا كي تهز أو تحرك الشعب من سباته، وكي تحرضه دائمًا على الحركة، وكي تشحذ وجدانه الثوري. العنف يعني وضع الثورة أمام الشعب بشكل مستمر، كي لا يغفو الشعب أو تغيب الثورة عن وعيه وضميره، إنه ـ بعبارة أخرى ـ وسيلة في منع الشعب من اجترار الثروة كجزء من تقليد، وبطريقة غير واعية، إذ يعني ذلك موت الثورة !!. "الأيديولوجية الانقلابية" ـ فصل "العنف الانقلابي" ص701). وتجعله من فرائض الثورة والثورية ولوازمها وزعموا أن هذا العنف من خصائص كل دعوة انقلابية في الماضي والحاضر ـ دينية أو غير دينية، وجهلوا موقف الإسلام المتميز. ولكي يكون العنف عنفًا انقلابيا ناجحًا يجب أن يستخدم باستمرار وحدة وثبات وقسوة.
ومما قاله أحد الدارسين للأيديولوجية اللادينية الحديثة: "يتخذ العنف عادة قبل الاستيلاء على الدولة شكلاً فرديًا يكون هدفه ـ كما حدده الفوضويون، وفي طليعتهم الفوضوية الروسية ـ التهويل وتفكيك السلطة، عن طريق الخوف، وإعداد الطريق بذلك للخطوة التالية، ألا وهي الاستيلاء على الدولة.
ولكن بعد الاستيلاء على الدولة يتحول هذا العنف إلى عنف جماعي هدفه ترسيخ السلطة وتثبيتها بدلاً من تفكيكها، فبينما يتجه العنف الفردي إلى أفراد في مراكز رئيسية حساسة، يتجه العنف الجماعي الانقلابي الجديد صوب الشعب ككل، أو صوب جماعة معينة. إن الهدف من العنف الثاني ليس اعتماد الخوف فقط، بل إزالة العدو من الوجود، كي ينسجم المجتمع مع المذهب الجديد". (انظر: الأيدولوجية الانقلابية للدكتور نديم البيطار – منشورات المؤسسة الأهلية للطباعة والنشر ـ بيروت ص 706 - 707).
"ولقد ارتكب الشيوعيون في روسيا من الفظائع والمذابح، عند القيام بثورتهم وبعدها ما لا يخطر ببال، وما يفوق كل خيال. حتى إن بعض معاوني "لينين" ـ مؤسس الجولة الشيوعية الأولى في هذا العصر ـ أخذوا يتذمرون من التضحيات الكبرى بالدماء والأرواح التي نتجت عن الحرب الأهلية، فلما كلَّموه في ذلك كان جوابه بكل بساطة: "ليس للأمر أهمية أبدًا إن مات ثلاثة أرباع الشعب، إن ما يهمنا هو أن يصبح الربع الباقي شيوعيًا". (المصدر السابق ص688).
أما ما وقع في عهد "ستالين" من مجازر وفظائع، وما شهده الشعب من حمامات الدم، وحملات التطهير المتلاحقة، فحدِّث ولا حرج، وقد جرت به أنهار الصحف، وتناقلته أنباء العالم في عهد "خروشوف". ولا يتسع المجال لذكر نماذج منه. انظر: خطاب الرفيق خروشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي ـ ترجمة ماهر نسيم وتقديم الأستاذ عباس العقاد، نشر مكتبة الأنجلو المصرية ـ مطبعة الرسالة).
الحقيقة المهمة هنا: أن دعاة العنف الثوري حديثًا يستندون في تبرير عنفهم وقسوتهم ضد مخالفيهم إلى ما حفل به تاريخ الأديان قديمًا من تنكيل واضطهاد وإبادة ضد من لا يدين بها ويركزون خاصة على تاريخ المسيحية، طوال العصور الوسطى، ومنذ نشأتها.
قالوا: إن العنف الجماعي المنظم الذي لجأ إليه الشيوعيون والنازيون إنما استوحاه "تروتسكي" و"هتلر" وغيرهما من مدارس مسيحية، وفي طليعتها مدرسة اليسوعيين، ومحاكم التفتيش، والحركات الألفية.
إن المسيحية التي تدعو إلى المحبة والسلام، والتي قاست ألوانًا من الاضطهاد والتنكيل إبَّان نشوئها وضعفها، لم تلبث ـ حين ملكت زمام السلطة وقامت لها دولة ـ أن أنزلت بالمخالفين لها من ضروب العنف، وصنوف القسوة والعذاب ما تقشعر لحدوثه الأبدان.
يذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في كتاب "الإسلام والنصرانية ": أن الكنيسة الأسبانية غضبت لانتشار فلسفة ابن رشد وأفكاره، وخصوصًا بين اليهود، فصبت جام غضبها على اليهود والمسلمين معًا، فحكمت بطرد كل يهودي لا يقبل المعمودية، وأباحت له أن يبيع من العقار والمنقول ما يشاء بشرط ألا يأخذ معه ذهبًا ولا فضة، وإنما يأخذ الأثمان عروضًا وحوالات. وهكذا خرج اليهود من أسبانيا تاركين أملاكهم لينجوا بأرواحهم، وربما اغتالهم الجوع ومشقة السفر، مع العدم والفقر.
وحكمت الكنيسة كذلك سنة 1052م على المسلمين (أعداء الله !) بطردهم من إشبيلية وما حولها إذا لم يقبلوا المعمودية، بشرط ألا يذهبوا في طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية ومن خالف ذلك فجزاؤه القتل. (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ص36 - 37 -الطبعة الثامنة).
ولم يكن اضطهادها موجهًا إلى الوثنيين والمخالفين في الدين فحسب بل موجهًا إلى المسيحيين الذين لهم رأي أو مذهب يخالف مذهب الحكام، أو مذهب الكنيسة المعتمدة لديهم.
والذين قرأوا تاريخ المسيحية يعرفون ماذا جرى للعالم المصري "آريوس" وأتباعه الذين عارضوا القول بألوهية المسيح، في مجمع نيقية المشهور (325م) وكيف قرر هذا المجمع ـ بعد أن طرد من أعضائه كل المعارضين ـ وهم الأكثرية ـ إدانة "آريوس" وإحراق كتاباته، وتحريم اقتنائها، وعزل أنصاره من كل الوظائف، ونفيهم، والحكم بالإعدام على كل من أخفى شيئًا من كتابات "آريوس" ومن أيَّد مذهبه.
وباستمرار الاضطهاد للداعين إلى التوحيد اختفوا تمامًا من المجتمعات المسيحية، ولم يبق لدعوتهم أثر.
يقول بعض الكتاب: "إن الاختلافات اللاهوتية بين المسيحية في تفسير بعض أقوال أو مبادئ التوراة، كانت تؤدي إلى قتال يحصدهم حصدًا. أن يشتق الروح القدس من الأب والابن، أومن الابن وحده ! أو أن يكون الخبز والنبيذ جسدًا ودمًا أو لا يكونا ! أو أن يكون المسيح ذا طبيعتين أو لا يكون: طبيعة إنسانية وطبيعة إلهية…إلخ ـ كانت كلها مماحكات مات الناس في الدفاع عنها والخصام حولها بعشرات الألوف، وعذب المؤمنون بعضهم بعضًا في سبيلها بأشد أنواع التعذيب. (الأيديولوجية الانقلابية ص714).
ولما ظهر مذهب البروتستانت في أوروبا ـ على يد "لوثر" وغيره ـ قاومت الكنيسة الكاثوليكية أتباع هذا المذهب بكل ما أوتيت من قوة، وعرف تاريخ الاضطهاد مذابح بشرية رهيبة، من أهمها مذبحة باريس (في 24 أغسطس عام 1572م) التي دعا فيها الكاثوليك البروتستانت ضيوفًا عليهم في باريس للبحث في تسوية تقرب بين وجهات النظر، فما كان من المضيفين إلا أن سطوا على ضيوفهم تحت جنح الليل، فقتلوهم خيانة وهم نيام ! فلما طلع الصباح على باريس كانت شوارعها تجري بدماء هؤلاء الضحايا ! وانهالت التهاني على "تشارلس التاسع" بغير حساب من البابا، ومن ملوك الكاثوليك وعظمائهم.
والعجيب أن البروتستانت لما قويت شوكتهم، قاموا بدور القسوة نفسه مع الكاثوليك، ولم يكونوا أقل وحشية منهم. (انظر "المسيحية" للدكتور أحمد شلبي ص51 - 52).
لقد قال "لوثر" لأتباعه: "من استطاع منكم فليقتل، فليخنق، فليذبح، سرًا أو علانية، اقتلوا واخنقوا، واذبحوا، ما طاب لكم، هؤلاء الفلاحين الثائرين". (الأيديولوجية الانقلابية ص710).
لم يكن من الغريب أن تنطوي الحروب الدينية في أوروبا على الفظائع التي ميزتها. يذكر "فيارك" أن الحرب الدينية الثلاثينية قضت حرفياً في ألمانيا وحدها على أكثرية الشعب الألماني بين قتل وجوع، وحرقت معظم مدنها المزدهرة، وحولتها إلى رماد‍‍!!
أما الحملات الصليبية فإن القرن العشرين بتجاربه الانقلابية (على ما فيها من وحشية كالانقلاب الشيوعي والنازي) يعجز أمام فظائعها التي كانت تقترفها ضد المسيحيين أنفسهم، فبعضها كان يحرث الأرض بأجساد ضحاياها من المارقين كطريقة تسميد الأرض!
ويذكر "فيدهام" أن هذه الحروب كانت مليئة بالفظائع: لأن رجال اللاهوت "الطيبين" كانوا مستعدين دائمًا أن يضعوا الزيت على النار، وأن يحيوا وحشية الجنود عندما يساورهم أي تردد أو ضعف، فقد يكون الجنود قساة، ولكنهم كانوا يميلون في بعض الأحيان إلى الرحمة، أما رجال اللاهوت فاعتبروا الاعتدال والرحمة نوعًا من الخيانة! (الأيديولوجية الانقلابية ص716).
يتحدث أحد الكتَّاب عن موقف المسيحية في العصور الوسطى فيقول: "كان القصد الأعلى للمسيحية كقصد كل أيديولوجية انقلابية، إنشاء عالَم مسيحي جديد ليس فيه سوى المؤمنين.
كان الإيمان "المسيحي" شرطًا جوهريًا كي يصبح الفرد عضوًا في مجتمع القرون الوسطى، وكان ضروريًا كي يصبح الفرد مواطنًا. لهذا بقي الوثني أو اليهودي أو المسلم خارج المجتمع. لم يكوِّن وضعهم الحقوقي الحد الأدنى من حقوق المواطنة فقط، بل برز في إلغائها إلغاءً تامًا.
ففي ابتداء الأمر كانت تحقق انتشارها، وتعمل في سبيل هذا القصد عن طريق السيف والقتل، فإما الموت أو العمادة. ولكنها ـ فيما بعد ـ أخذت تعتمد على عنصر التبشير تحاول عن طريقه تحقيق القصد ذاته.
كانت الحركات الصليبية مثالاً حيًا لهذا الامتداد. فهي من القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر، وخصوصًا في تجمعاتها الجماهيرية، لم تر أي سبب يمنع تحقيق قصدها، وتحويل العالم كله إلى عالم مسيحي، عن طريق إفناء الشعوب غير المسيحية. يتضح ذلك في أحد مقاطع أغنية "رولان" التي تعبر عن روح الحملة الصليبية الأولى، حيث ترى أن الكفرة يرغمون على العمادة، ومن يقاوم يقتل شنقًا أو حرقًا أو ذبحًا!
لم تتجه الحملات الصليبية ضد المسلمين فقط، ولكنها اتجهت في أوروبا أيضًا ضد كل من حدثته نفسه بالخروج أو بالانحراف عن الكنيسة، ففي الحملة ضد الألبيجنس و الوالدنس والكثاريين (Cathartics, Waldenses, Aibigenses) مثلاً ـ في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ـ كانت الكنيسة تحاول إفناءهم إفناءً تامًا. وهذا ما حققته فعلاً، فقتلت وحرقت وشنقت الرجال والنساء والأطفال بشكل جماعي.
يذكر "بوري" في هذا الشأن بأن الأمر المهم، هو أن الكنيسة أدخلت في القانون العام الأوروبي: المبدأ القائل بأن الملك أو الأمير يستطيع أن يمارس سلطته على أساس واحد، وهو إفناء فرق الخارجين على الكنيسة، فإن تجاسر أحد على التردد أرغمته الكنيسة على الطاعة، بجعل امتيازاته وأراضيه ملكًا لأي فرد تستطيع الكنيسة أن توجهه لمهاجمته وتأديبه. وفي مكان آخر من دراسته يفسر بأن اضطهاد روما للمسيحيين يعود إلى تعصب المسيحية، وإلى نقضها لجميع الأديان الأخرى، وإلى عدائها لجميع أشكال الإيمان خارج إيمانها، وإلى الاعتقاد بأن فوزها يعني إزالة جميع العقائد.
هذه الظاهرة جعلت "وليم جيمس" يقرر أن العالم لم يعرف الاضطهاد الديني على نطاق واسع، قبل ظهور الأديان الموحدة، كانت المسيحية في الواقع أول مذهب ديني في العالم وجد خاصته في التعصب والذي كان يقضي بإفناء خصومه.
كانت حرب الكنيسة ضد حركات الانشقاق الديني دائما، عندما كانت الكنيسة قادرة على ذلك، حرب إفناء. ثم كانت بعض هذه الطوائف المنشقة ترغب في أن تكون حربها هي الأخرى حرب إفناء لجميع أتباع الكنيسة.
إن المسيحية ممثلة بكنيستها كانت تدفع قضيتها ـ من ناحية ـ ضد "الوثنيين" في الخارج، ومن ناحية أخرى ضد "المارقين" في الداخل، فتنظم حملات الإفناء الصليبية ضد الأولين، ومحاكم التفتيش ضد الآخرين!
كان الحرق عقاب جميع الفرق المنشقة، فإن ندم أحدهم فاعترف بخطيئته وتاب، يحكم عليه بالسجن المؤبد، وكان الحجز يصيب جميع أملاك الكافر وأولاده حتى الجيل الثاني، وكانوا لا يعتبرون أهلاً لأي منصب أو مركز إلا إذا وشوا بأبيهم أو بكافر آخر. والعقاب ذاته كان يصيب كل من يساعد الكفار بأي شكل.
لم يكن الموتى أنفسهم في منجى، إذ كانت المحاكم تأمر بنبش وحرق جثث من ترى أنهم كانوا كفرة. وقد بلغ التشجيع على الوشاية بالغير درجة لم يبلغها في الانقلابات الحديثة!
ذكر "لي" في دراسته الكلاسيكية حول محاكم التفتيش في القرون الوسطى: أن جميع المحاكم والقضاة في الحاضر والمستقبل، كانوا ملزمين بأن يُقْسموا على إزالة كل الذين تعتبرهم الكنيسة كفرة، وإلا فإنهم يخسرون مراكزهم، إن أي حاكم زمني يهمل لعام واحد ـ بعد دعوة الكنيسة بأن ينظف الأرض التي يملكها من الكفرة ـ تصبح أرضه من حق كل من يفني الكفرة ويقضي عليهم. جنَّد "مرسوم الإيمان" ـ الذي اعتمدته محاكم التفتيش في متابعة المارقين ـ الشعب كله في خدمة المحاكم، وفُرِض على كل فرد أن يشي بالغير وأن ينبئها بأي عمل كافر أو مارق. (الأيديولوجية الانقلابية ص586 - 588).
ويقول الشيخ محمد عبده عن محاكم التفتيش: لقد اشتدت وطأة هذه المحكمة حتى قال أهل ذلك العهد: يقرب من المحال أن يكون الشخص مسيحيًا ويموت على فراشه!
ويقول: لقد حكمت هذه المحكمة من يوم نشأتها سنة 1481م حتى سنة 1808م على 340000 نسمة منهم 200000 أحرقوا أحياء. (المرجع السابق ص715).
لم يكن هذا الموقف جديدًا في المسيحية، لأن انتشارها في عصورها الأولى كان يتم عادة عن طريق تخيير الغير بينها وبين السيف.
يذكر (بريفولت) أن تقدير المؤرخين للناس الذين قتلتهم المسيحية في انتشارها ـ أي في أوروبا ـ يتراوح بين سبعة ملايين كحد أدنى، وخمسة عشر مليون كحد أعلى. (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية للإمام محمد عبده).
إن فظاعة هذا العدد تتضح لنا عندما نذكر أن عدد سكان أوروبا آنذاك كان جزءًا ضئيلاً فقط من سكانها اليوم.
كانت الفظائع والمذابح التي قام بها المسيحيون ضد خصومهم تجد لها سندًا في التوراة التي تقول في شأن هؤلاء الخصوم: (اهدموا معابدهم، واقذفوا أعمدتها إلى النار، واحرقوا جميع صورها) .. كما توصى التوراة بتحريق المدن بعد فتحها، وقتل كل من فيها من رجال ونساء وأطفال.
وكان الذين يقومون بتلك العمليات الوحشية يزعمون لأنفسهم أنهم يتقربون إلى الله وينفذون إرادته، ويعجلون لأعدائه بعض النقمة التي تنتظرهم في الآخرة. عبرت عن ذلك ملكة إنجلترا ـ الكاثوليكية ـ في القرن السادس عشر (ماري) حين أعلنت مرة: (بما أن أرواح الكفرة سوف تحرق في جهنم أبدًا، فليس هناك أكثر شرعية من تقليد الانتقام الإلهي بإحراقهم على الأرض) (الأيدلوجية الانقلابية ص 714)