وقد تفوَّقت كثيرات من نساء الصحابة والتابعين والأجيال المتتابعة فى علوم الدين والدنيا. وكتب السير والتراجم مليئة بآلاف من أسمائهن. وشهد لهن كبار علماء السلف بالعلم والدقة والصدق. قال الحافظ الذهبى - رضي الله عنه - في مقدمة كتابه "الميزان": "لم يُؤثر عن امرأة أنها كذبت فى حديث". وقال الإمام الشوكانى - رضي الله عنه-: "لم يُنقل عن أحد من العلماء أنه ردَّ خبر امرأة لكونها امرأة، فكم من سُنَّة تلقَّتها الأُمَّة بالقبول عن امرأة واحدة من الصحابة، وهذا لا يُنكره مَن له نصيب من علم السُّنَّة"[14].

وكانت السيدة رُفيدة الأسلمية على علم بالطب والجراحة، وأذن لها النبى - صلى الله عليه وسلم - باتِّخاذ خيمة في مسجده لعلاج جرحى الغزوات، ومنهم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - الذي أصيب بجراح خطيرة فى غزوة الخندق، فأمر الرسول - عليه السلام - بنقله إلى خيمة السيدة رُفيدة - عيادتها الطبية - لعلاجه، لكن قضاء الله سبق كل جهودها، واستشهد - رضي الله عنه - داخل عيادتها بعد قليل. وخبر نقل سعد إلى خيمة رُفيدة لعلاجه أورده الإمام الذهبى فى ترجمته لسعد بن معاذ رضي الله عنه[15].

وكانت السيدة نفيسة - رضي الله عنها - عالمة من مشاهير علماء أهل البيت - رضي الله عنهم - وأثنى عليها الإمام الشافعى - رضي الله عنه - وذكر أنه تلقَّى عنها كثيرًا من العلوم الشرعية، وكانت تُلَقَّب بـ "نفيسة العلوم" لغزارة علمها وحدة ذكائها. وكانت أم عطية الأنصارية قابلة وخاتنة بالمدينة،أي طبيبة أمراض نساء وولادة بلغة عصرنا، وبرعت في ذلك حتى أنه لا يُعرف بالمدينة غيرها فى وقتها. ولم يجد كبار علماء الإسلام - على مرِّ العصور - غضاضة فى ذكر أسماء من تلقَّوا العلم عنهن من عالمات السلف. ويمكن الرجوع إلى كتب التراجم والسير والتاريخ للاطلاع على المزيد من سيرهن، وما قدمن من أعمال علمية جليلة لحفظ وتدريس العلوم الشرعية - رضي الله عن الجميع.


وحتى في عصرنا الحديث يعمر العالم الإسلامى بعشرات الملايين من الطبيبات والمُدَرِّسات والمهندسات والعالمات المسلمات فى كل فروع العلوم الدينية والدنيوية.


ونؤكِّد أن المجتمعات الإسلامية بحاجة ماسَّة إلى المزيد منهن فى كل التخصُّصات. فنحن بحاجة إلى الطبيبات لعلاج بنات جنسهن، ونحن أيضًا بحاجة إلى مَن يقمن بالتدريس لبنات جنسهن فى مختلف فروع المعرفة الإسلامية والإنسانية والعلوم الطبيعية. وخروج المرأة لطلب العلم قال عنه ابن حزم - رضي الله عنه -: "النِفَار - الخروج - لطلب العلم والفقه فى الدين واجبٌ عليهن كوجوبه على الرجال، ففرض على كل إمرأة التفقُّه في كل ما يخصُّها؛ كأحكام الطهارة، والصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وما يحلُّ وما يحرم من الأكل والشراب والملابس وغير ذلك"[16].


مسلمات خلَّدَهُن التاريخ:
ويكفى النساء شرفًا أن أوَّل من آمن بالنبى - عليه السلام - كانت واحدة منهن هى أم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - التي نطقت بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله قبل أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وغيرهم من سادات الصحابة. وظلت أيامًا هى وبناتها رقية وزينب وأم كلثوم وفاطمة هن كل الأمة الإسلامية قبل أن يدخل الإسلام رجل، وسَلَّمَ عليها الله - تعالى - وشهد لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وَبَشَّرَهَا جبريل بقصر فى الجنة. وهى التي نصرت دينها ونبيها وزوجها بكل ما تملك، وآمنت به حين كَذَّبَه الرجال، وأعطته مالها حين حرموه، وواسته بنفسها وقومها حين كان وحيدًا مضطهدًا يجبن كثير من الأبطال والرجال عن مساندته ونصرته.


ويكفيهن شرفاً أن أوَّل مَن نال درجة الشهادة فى سبيل الله - وهى درجة رفيعة تَمَنَّاها حتى النبى - كانت امرأة هى "سميَّة بنت خياط" والدة عمار بن ياسر - رضى الله عنهما - حيث طعنها الطاغية اللعين "أبو جهل" بحربة فى فرجها؛ لأنها رفضت أن ترتدَّ عن الإسلام رغم التعذيب المروِّع الذي تعرَّضت له مع زوجها وولدها، وآثرت الموت مع الإسلام على الحياة مع الكفر.

ومن النساء أيضًا سيدة الأبطال "نسيبة بنت كعب" الأنصارية التى حضرت بيعة العقبة الكبرى مع امرأة أخرى من الأنصار، وصرعت بسيفها عشرات من فرسان المشركين يوم أحد الذى لم يثبت فيه عند الهزيمة إلا قلة من المسلمين منهم "نسيبة" - رضى الله عنها - وتلقَّت عشرات الطعنات فى جسدها الطاهر فداء لنبيها - عليه السلام - وحمت جسده الشريف من سيوف وسهام الكافرين.


ومنهنَّ السيدة عائشة التى عَلَّمَت أكابر الصحابة بل عَلَّمَت- ولا تزال- مئات الملايين من طلبة العلم الحديث والفقه والتفسير جيلاً بعد جيل.


ومنهن "الخنساء" الشاعرة التى عجز ملايين الرجال عن نظم معشار ما جادت به قريحتها العبقرية من قصائد خَلَّدها التاريخ. ولن نستطيع حصر أسماء آلاف من النساء اللاتى شَرَّفَهن الإسلام،ويمكن لمن شاء الرجوع إلى كتب التراجم والسِّيَر لمزيد من التفاصيل[17].


[1] تفسير القرطبى (الجامع لأحكام القرآن الكريم) - الجزء السادس- ص318 وما بعدها - طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة.

[2] انظر تفسير الآية الكريمة عند ابن كثير والقرطبى والطبرى والنسفى والشوكانى والمنتخب فى تفسير القرآن- طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية-مصر.

[3] أحاديث فضل رعاية البنات والأخوات أوردها المنذرى فى كتابه: الترغيب والترهيب - الجزء الثالث، ص 84- 85.

[4] تفسير الشوكانى (فتح القدير)، الجزء الأول - ص 776، طبعة دار الوفاء، المنصورة - مصر.

[5] تيسير صحيح البخاري، الدكتور موسى شاهين لاشين - الجزء الثاني - ص 214 - طبعة دار الشروق الدولية، القاهرة - مصر.

[6] لمزيد من التفاصيل والأدلة انظر كتاب: "الإسلام محرر العبيد، التاريخ الأسود للرق فى الغرب" للمؤلف - منشور بمكتبة موقع صيد الفوائد - وموقع المكتبة الإسلامية، وموقع المنشاوى للدراسات والبحوث - وموقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنَّة - وغيرها من المواقع على الانترنت.

[7] تيسير صحيح البخاري - د. موسى شاهين لاشين - الجزء الثانى-ص191.

[8] انظر: تفسير الآيات المذكورة فى أمهات كتب التفسير المشار إليها.

[9] نيل الأوطار – الشوكانى - الجزء السادس - ص 207.

[10] سبل السلام – الصنعانى - ص 568 - طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.

[11] سبل السلام - المرجع السابق - ص 569.

[12] سبل السلام - ص 570.

[13] المعلم بفوائد مسلم – المازرى - ج2 ص306- ط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - القاهرة - مصر.

[14] نيل الأوطار – الشوكانى - الجزء 58 -ص 122.

[15] سير أعلام النبلاء – الذهبي - الجزء الأول- ص 287- طبعة مؤسسة الرسالة - بيروت.

[16] ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام - الجزء الثاني - ص 257 - طبعة مكتبة الخانجى - مصر.

[17] الطبقات الكبرى - لابن سعد- الجزء الأخير الخاص بالنساء - وكذلك أسد الغابة فى معرفة الصحابة، لابن الأثير، وغيرها.


يتبع إن شاء الله .....