رابعاً : مناقشة واستنتاج
:

إن ما تقدم من بيان لأقاويل المُجَرِّحِينَ لحفص بن سليمان الأسدي ،وأقوال المُعَدِّلِينَ له، يقتضي إعادة النظر في الموضوع كله ، في ضوء الحقائق التي تكشفت من خلال البحث ، وعلى النحو الآتي :
(1) إن تضعيف حفص بن سليمان القارئ في الحديث يحتاج إلى مراجعة ، بل قد يحتاج إلى تعديل وتصحيح ، وذلك بتغليب أقوال المعدِّلين له، لأن التعديل يُقبل من غير ذكر سببه ، على الصحيح المشهور ،ولا يُقبل الجرح إلا مُبَيَّن السبب(30).
وقد اتضح أن سبب تضعيف حفص بن سليمان القارئ الرئيس هو قول شعبة بن الحجاج ، وقد بان أن شعبة كان يعني حفص بن سليمان المنقري البصري ، ويؤكد ذلك أن ابن سعد نقل عن شعبة أن حفصاً المنقري كانت لديه كتب استفاد منها أخو زوجته أشعث بن عبد الملك في معرفة مسائل الحسن ، لأن حفصاً هذا كان أعلمهم بقول الحسن (31).
ولا يخفى أن تضعيف يحيى بن معين لحفص القارئ كان مبنياًعلى فهم غير دقيق لقول أيوب بن المتوكل ، على نحو ما بيَّنت من قبل . وبناء على ذلك ينبغي أن يعتمد قول الإمام أحمد بن حنبل في توثيق حفص القارئ ، ويحمل ما ورد من تضعيف على حفص آخر ، لأن وجود عدد من الأشخاص يحملون اسم حفص بن سليمان قد أوقع بعض العلماء في الخلط بينهم ، على نحو ما سنوضح بعد قليل .
أما أقوال علماء الجرح والتعديل الذين جاءوا بعد الجيل الأول من طبقة شعبة ويحيى بن معين والإمام أحمد والبخاري ، فإنهم كانوا ينقلون ما قاله هؤلاء الأعلام ، على ما فيه من أوهام وخلط ، وقد يتصرفون في العبارة بما يزيد من شدة النقد والتجريح لحفص بن سليمان القارئ ، وغَطَّتْ أقاويل التجريح أقوال التوثيق حتى نُسِيَتْ تقريباً ، على نحو مالاحظنا في النص الذي نقلناه عن ابن الجوزي من قبل .
(2) ذكرت كتب التراجم عدة أشخاص من رواة الحديث باسم حفص بن سليمان ، عاشوا في القرن الثاني ، ذكرالبخاري منهم في كتابه التاريخ الكبير أربعة ، هم :(32)
أ. حفص بن سليمان البصري المنقري ، عن الحسن .
ب. حفص بن سليمان الأزدي ، روى عنه خليد بن حسان .
ج. حفص بن سليمان ، سمع معاوية بن قرة عن حذيفة ، مرسل ...
د. حفص بن سليمان الأسدي أبو عمر القارئ ...
وقد وقع خلط بين هؤلاء الرواة للحديث، لاسيما بين حفص المنقري البصري ، وحفص الأسدي الكوفي،على نحو ما ذكرنا من نسبة قول شعبة في حفص البصري، وحمله على حفص الكوفي. ووقع مثل هذا الخلط بينهما في تاريخ وفاتهما ، على نحو ما فعل ابن النديم حين ذكر حفص بن سليمان القارئ، وقال:" ماتحفص قبل الطاعون ، وكان الطاعون سنة إحدى وثلاثين ومئة "(33). وقد نبَّه ابن الجزري إلى ذلك فقال في وفاة حفص القارئ:" تُوُفِّيَ سنة ثمانين ومئة على الصحيح، وقيل بين الثمانين والتسعين، فأما ما ذكره أبو طاهر بن أبي هاشم [ عبد الواحد بن عمر ت 349ھ ] وغيره من أنه توفي قبل الطاعون بقليل، وكان الطاعون سنة إحدى وثلاثين ومئة، فذاك حفص المنقري بصري، من أقران أيوب السختياني، قديم الوفاة ، فكأنه تصح فعليهم ، والله أعلم "(34).
وقد يعثر المتتبع على أمثلة أخرى من الخلط بين هؤلاء ، فقد نقل الهيثمي حديثاً قال عنه :" رواه الطبراني في الكبير ، وفيه حفص بن سليمان المنقري ، وهو متروك ، واختلفت الرواية عن أحمد في توثيقه ، والصحيح أنه ضعفه ، والله أعلم ، وذكره ابن حبان في الثقات "(35).
ويثير هذا النص أكثرمن إشكال ، منها أن الطبراني ذكر في الإسناد " حدثنا حفص بن سليمان،
عن قيس بنمسلم "(36)، والذي يروي عن قيس بن مسلم هو حفص بن سليمان القارئ، وقد تكون كلمة ( المقرئ ) تصحفت إلى (المنقري)، لكن الإشارة إلى أن ابن حبان ذكره في الثقات يؤكد أن المقصود هو ( المنقري)(37)، ويكاد الهيثمي ينفرد بالنص على تضعيف حفص المنقري .
ولعل في ما قاله ابن حبان عن حفص بن سليمان المقرئ ما يشير إلى ذلك الخلط أيضاً ، ونصه " كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها سماع (كذا) "(38)، فلا شك في أن الذي يأخذ كتب الناس هو المنقري، أماالذي يرفع المراسيل فقد يكون حفص بن سليمان الأزدي، فقد وصفه ابن حبان بأنه:" يرويالمراسيل "(39)، ولعل كلمة (يروي) تصحفت عن كلمة( يرفع) .
وكان أبو زرعة (عبيد الله بن عبد الكريم ت 264ھ ) قد تخوَّف من الخلط بينهما، فقال البرذعي :" وقال لي أبو زرعة : ليس هذا من حديث حفص، أخاف أن يكون أراد حفص بن سليمان المنقري"(40).
وإذا كان الأمر بهذه الصورة فإن تضعيف حفص بن سليمان القارئ به حاجة إلى المراجعة ، لأن كثيراً مما رُمِيَ به يرجع إلى البصريين المُسَمَّيْنَ باسمه ، لكن تتابع الأقوال في تجريحه قد حجب الأقوال التي توثقه ، لا بل إن الأمروصل إلى حد تغيير مفهوم قول أيوب بن المتوكل الذي أثبت فيه أن حفصاً أصح قراءة من أبي بكر شعبة ، فقال ابن أبي حاتم :" قلت ما حاله في الحروف ؟ قال : أبو بكر بن عياش أثبت منه "(41). ومما يؤكد عدم دقة هذا التعبير قول أبي هشام الرفاعي (ت248 ھ ):كان حفص أعلمهم بقراءة عاصم"(42)، وقل ابن المنادي
(ت 336ھ ) :" وكان الأولون يعدونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش ، ويصفونه بضبط الحروف التي قرأ بها على عاصم "(43) ، ولعل ابن المنادي يشير إلى قول أيوب بن المتوكل الذي نقلناه من قبل : " أبوعمر أصح قراءة من أبي بكر بن عياش " . .
(3) ذكر المزي في ( تهذيب الكمال ) سبعة وعشرين شيخاً روى عنهم الحديث حفص بن سليمان القارئ (44)، وقد تتبعتهم في(تقريب التهذيب) لابن حجر فوجدته يصف خمسة عشر منهم بـ
( ثقة )، وعشرة منهم بـ(صدوق ) ، وواحد بـ ( لا بأس به )، وواحد وصفه بمجهول ، وهو كثير بن زاذان، الذي سأل عثمان بن سعيد الدارمي يحيى بن معين عنه، فقال :" قلت يروي ( أي حفص القارئ ) عن كثير بن زاذان من هو ؟ قال : لا أعرفه"(45)، لكن ابن حجر ذكره في التهذيب وقال : كثير بن زاذان النخعي الكوفي ، وذكر جماعةً من الرواة الذين رووا عنه سوى حفص ،وذكر نقلاً عن الخطيب البغدادي أنه كان مؤذن النخع (46).
وذكر المزي خمسة وثلاثين راوياً أخذوا عن حفص بن سليمان القارئ، وقد تتبعت ما قاله فيهم ابن حجر في تقريب التهذيب ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ، فوجدت أن معظمهم موصوف بأنه(ثقة ) أو (صدوق).
وإذا نظرنا إلى حال شيوخ حفص القارئ وحال معظم تلامذته من حيث وصفهم بالثقة والصدق فإن من المناسب أن يكون حفصٌ كما وصفه وكيع بأنه : ثقة ،أو كما وصفه الإمام أحمد بأنه : صالح ، وأن نَعُدَّ كل ما وُصِفَ به من ألفاظ التجريح من باب الوهم والخلط الذي كان سببه نسبة القول بأخذ كتب الناس ونسخها إليه، وعدم الدقة في فهم قول أيوب بن المتوكل : إن أبا بكر شعبة أوثق منه .
(4) لعل مما يُعَزِّزُ هذه النتيجة أن تُعْقَدَ دراسة لمرويات حفص بن سليمان القارئ من الأحاديث، ومروياتِ مَن يشاركه في الاسم ، ويُدْرَسَ حال رجالها ، وتُوَازَنَ بمرويات غيرهم من المحدثين، للتحقق مما ورد عند ابن حبان من أن حفصاً كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، أو نحو ذلك مما نسبه إليه بعض العلماء بعد أن صنفوه في الضعفاء والمتروكين، وأرجو أن أتمكن من القيام بمثل هذه الدراسة في المستقبل، أويقوم بها غيري ممن هو أكثر معرفة مني بعلم الحديث.