محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ورقة بن نوفل و يوسف عليه السلام

مقدمة
لقد تناول الكتاب والوعاظ قصة يوسف عليه السلام من منظور متفق عليه تقريباً ويجمعهم خط درامي واحد يتمثل في القصة القرآنية وأغراضها المتنوعة والأهداف التي من أجلها صيغت إلى آخر المعاني العظيمة والتي لا يخلو منها كتاب أو تفسير، وحظيت سورة يوسف بالجانب الأوفى نظراً لأنها تمس الأسرة والمجتمع ونظام الحكم وشرعية الحكومة، وقتلت هذه الموضوعات بحثاً من قبل الدارسين الأفاضل وكل أدلى بدلوه بما فتح الله له من أبواب الخير.
وهذه الدراسة التي بين يديك هي ملخص لما ورد من أبحاث دارت حول السورة الكريمة وموضوعاتها المتنوعة، إلا أنني قد لاحظت شيئاً مهماً قد غفل عنه معظم الدارسين للسورة الكريمة ألا وهو العلاقة الوثيقة بين سورة يوسف يوم نزولها على الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحادثة الهجرة النبوية الشريفة ، لذلك كان موضوع البحث " محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ورقة بن نوفل و يوسف عليه السلام ".
وقد يكون العنوان غريبا بعض الشيء, ولكنها الحقيقة نذكرها بدون تكلف كيف؟.
هذا ما سوف نوضحه في الصفحات القادمة إذ أن مقدمات الهجرة كانت مع ورقة بن نوفل أما بشائرها من حيث النصر والتمكين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد وردت في سورة يوسف ، بينما الخط الدرامي للأحداث منذ البعثة النبوية وحتى الهجرة إلى المدينة المنورة، فقد تناولته سورتي يونس وهود عليهما السلام والسابقتين في النزول لسورة يوسف .
وفي الدراسة سوف تتعرف على امرأة العزيز أعظم تائبة في التاريخ، مع الحديث عن عفة يوسف عليه السلام ، وخمسة عشر دليلاً على براءته عليه السلام.
ولسوف نتناول في هذه الدراسة هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة على وجه الإجمال إذ أن كتب السيرة قد تناولت الموضوع بشيء من التفصيل.
ونظراً لأهمية موضوع الهجرة فلقد أفردت لها دراسة خاصة أسميتها ( الهجرة النبوية الشريفة كما هي في الكتاب المقدس بدون تأويل).
ولكن ما يهمنا هنا هو تناول حدث الهجرة النبوية الشريفة، من حيث قيمته مقارنا بهجرة اليهود إلى فلسطين فكلا الهجرتين كانتا بوازع ديني.
ولسوف نعرض إلى قصة يوسف عليه السلام على وجه الإجمال كما وردت في القرآن الكريم مقارنة بالقصة التوراتية الواردة في الكتاب (المقدس)، وذلك على النحو الوارد تفصيلاً..
هذا والله ولي التوفيق...
زهدي جمال الدين محمد

الفصل الأول

المطلب الأول

مع سورة يونس عليه السلام

قال ابن إسحاق:

إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد , فتتابعت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصائب بهلاك السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها ـ وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها ـ وبهلاك عمه أبي طالب ـ وكان له عضدا وحرزا في أمره , ومنعة وناصرا على قومه - وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلاث سنين .
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب , حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا .
قال ابن إسحاق:فحدثني هشام بن عروة , عن أبيه عروة بن الزبير , قال:لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك التراب , دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته , فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لها:" لا تبكي يا بنية , فإن الله مانع أباك ".
قال:ويقول بين ذلك:" ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " .
وقال المقريزي في إمتاع الأسماع:فعظمت المصيبة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموتهما وسماه "عام الحزن" وقال:" ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابا عنه غيره .
وفي هذا الجو النفسي المشحون نزلت سور يونس وهود ويوسف عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام, وكلها تحمل طابع هذه الفترة ; وتتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها ،وآثار هذه الفترة وجوها واضحة في جو هذه السور وأحداثها وموضوعاتها ! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذين معه على الحق ; والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في المجتمع الجاهلي .
ففي سورتي يونس وهود تم عرض مواقف الرسل الكرام عليهم السلام وهم يتلقون الإعراض والتكذيب، والسخرية والاستهزاء , والتهديد والإيذاء , بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق , وفي نصر الله الذي لا شك آت ; ثم تصديق العواقب في الدنيا ـ وفي الآخرة كذلك ـ ليقين الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم , بالتدمير على المكذبين , وبالنجاة للمؤمنين.
بينما في سورة يوسف عليه السلام فلقد كان الأمر مختلفاً، لأن الله سبحانه وتعالى قص علي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه القصة ليثبت بها فؤاده لأنّ نبي الله يوسف الصِّديق الكريم عليه السلام لم يعان من قومه بل عانى من أخوته، فإذا كانت المعاناة من الأقوام فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالأنبياء الصادقين أسوة حسنة ، وإن كانت المعاناة من الأقربين فله في سيدنا يوسف عليه السلام أسوة حسنة .
ونحن إن جاءتنا المتاعب من الأباعد فهذا درس يوضع أمامنا وإن جاءتنا المتاعب من الأقارب ، من الأهل ، من الأخوة فلنا في هذا النبي الكريم أسوة حسنة ،.
ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد جمع ما بين الأمرين معا ـ معاناته مع قومه وأهله ـ لذلك كان لنا فيه الأسوة الحسنة.

وعن المتاعب مع القوم نتناول
:

أولاًً: الخط الدرامي للأحداث، مع سورة يونس عليه السلام:

هذه السورة نزلت بعد سورة الإسراء وقبل الهجرة النبوية الشريفة، وقد حمي الجدل من المشركين حول صدق الوحي, وحول هذا القرآن الكريم, وما يواجههم به من تسفيه لعقائدهم, ومن تنديد بجاهليتهم, ومن كشف لما في كيانها من تناقض واضح.
وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين، آناً في صورة الخبر , وآنا في صورة قصص بعض الرسل .
وتلتقي كلها عند عرض مشاهد التدمير على المكذبين ; وتهديدهم بمثل هذا المصير الذي لقيه من قبلهم، فلا تغرنهم الحياة الدنيا , فإن هي إلا فترة قصيرة للابتلاء، أو ساعة من نهار يتعارف فيها الناس, ثم يعودون إلى دار الإقامة في العذاب أو في النعيم.
وقد سميت السورة بسورة يونس، بينما قصة يونس فيها لا تتجاوز إشارة سريعة على هذا النحو:
قال تعالى:[ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ{98}] يونس: ٩٨

ولكن قصة يونس - مع هذا - هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم ; فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة ; وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب , فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم , كما هي سنة الله في المكذبين المصرّين .
قال تعالى:[ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ{2}]يونس: ٢
فهذه هي خلاصة الوحي: إنذار الناس بعاقبة المخالفة , وتبشير المؤمنين بعقبى الطاعة.
وهذا يتضمن بيان التكاليف الواجبة الإتباع وبيان النواهي الواجبة الاجتناب، فهذا هو الإنذار والتبشير ومقتضياتهما على وجه الإجمال .
والإنذار للناس جميعا، فكل الناس في حاجة إلى التبليغ والبيان والتحذير.
والبشرى للذين آمنوا وحدهم، وهو يبشرهم هنا بالطمأنينة والثبات والاستقرار . .
تلك المعاني التي توحي بها كلمة[َ صِدْقٍ] مضافة إلى القدم، في جو الإنذار والتخويف.
[ قَدَمَ صِدْقٍ] : قدم ثابتة راسخة موقنة لا تتزعزع ولا تضطرب ولا تتزلزل ولا تتردد, في جو الإنذار وفي ظلال الخوف, وفي ساعات الحرج. .
[ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ]. . في الحضرة التي تطمئن فيها النفوس المؤمنة، حينما تتزلزل القلوب والأقدام.

وحكمة الله واضحة في الإيحاء إلى رجل منهم، رجل يعرفهم ويعرفونه , يطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه , بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج .

أما حكمته في إرسال الرسل فهي أوضح، والإنسان مهيأ بطبعه للخير والشر, وعقله هو أداته للتمييز، ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائما كلما غم عليه الأمر, وأحاطت به الشبهات, وجذبته التيارات والشهوات, وأثرت فيه المؤثرات العارضة التي تصيب البدن والأعصاب والمزاج، فتتغير وتتبدل تقديرات العقل أحيانا من النقيض إلى النقيض، هو في حاجة إلى ميزان مضبوط لا يتأثر بهذه المؤثرات ليعود إليه، وينزل على إرشاده, ويرجع إلى الصواب على هداه.
وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعة الله .
ومع وضوح قضية الوحي على هذا النحو, فإن الكافرين يستقبلونها كما لو كانت أمرا عجيبا:
[ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ{2}] يونس: ٢
ساحر... لأن ما ينطق به معجز، وأولى لهم ـ لو كانوا يتدبرون ـ أن يقولوا: نبي يوحى إليه لأن ما ينطق به معجز، فالسحر لا يتضمن من الحقائق الكونية الكبرى ومن منهج الحياة والحركة , ومن التوجيه والتشريع ما يقوم به مجتمع راق , وما يرتكز عليه نظام متفرد . .



والآن مع قوله تعالى:

[ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ]

قال تعالى: [ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ{13} ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ{14}] يونس: ١٣ - ١٤

ويقول سبحانه في نفس السورة :

[ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ{71} فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{72} فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ{73}] يونس: ٧١ - ٧٣

ويقول سبحانه وتعالى في نفس السورة:

[ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ{75} فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ{76} قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ{77} ] يونس: ٧٥ - ٧٧

إلى قوله تعالى في نهاية القصة:
[ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{90} آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ{91} فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ{92}] يونس: ٩٠ - ٩٢

ختام السورة


يقول سبحانه في ختام السورة:
[فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ{102} ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ{103}] يونس: ١٠٢ - ١٠٣
فالوحي وصدقه, والحق الخالص الذي جاء به، والبعث واليوم الآخر والقسط في الجزاء. .

هذه القواعد الرئيسية للعقيدة التي دار حولها سياق السورة كله , وسيقت القصص لإيضاحها وضربت الأمثال لبيانها . .
[
ها هي ذي كلها تلخص في هذه الخاتمة, ويكلف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعلنها للناس إعلاناً عاماً , وأن يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة الحاسمة:
أنه ماض في خطته, مستقيم على طريقته, حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.

بين البداية والختام


هلاك فرعون غرقا والآية في إلقاء جثته إلى الشاطئ


والمشهد التالي هو مشهد التنفيذ :
قال تعالى:[ َجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{90} آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ{91} فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ{92}] يونس: ٩٠ - ٩٢

إنه الموقف الحاسم والمشهد الأخير في قصة التحدي والتكذيب.

والسياق يعرضه مختصراً مجملاً, لأن الغرض من سياق هذه الحلقة من القصة في هذه السورة هو بيان هذه الخاتمة، بيان رعاية اللّه وحمايته لأوليائه , وإنزال العذاب والهلاك بأعدائه الذين يغفلون عن آياته الكونية وآياته مع رسله حتى تأخذهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة ، وهو مصداق ما سبق في السورة من وعيد للمكذبين.

قصة قوم يونس والمشيئة الإلهية في الهدى والضلال


بعد ذلك يجيء التعقيب على هذه الخاتمة لقصة موسى وقصة نوح من قبلها , يبدأ خطاباً إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تثبيتاً بما حدث للرسل قبله , وبياناً لعلة تكذيب قومه له ، أن ليس ما ينقصهم هو الآيات البينات , إنما هي سنة اللّه في المكذبين من قبلهم؛ وسنة اللّه في خلق الإنسان باستعداداته للخير والشر والهدى والضلال . . وفي الطريق يلم إلمامة سريعة بقصة يونس وإيمان قومه به بعد أن كاد العذاب ينزل بهم , فرد عنهم . لعل فيها حافزاً للمكذبين قبل فوات الأوان. . وينتهي بالخلاصة المستفادة من ذلك القصص كله ، أن سنة اللّه التي مضت في الأولين ماضية في الآخرين:
عذاب وهلاك للمكذبين، ونجاة وخلاص للرسل ومن معهم من المؤمنين حقاً كتبه اللّه على نفسه، وجعله سنة ماضية لا تتخلف ولا تحيد.

والآن مع قرية يونس:


قال تعالى:[ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ{98}] يونس: ٩٨

ما هي تلك القرى التي لم تؤمن.... إنما آمنت منها قلة , فكانت الصفة الغالبة هي صفة عدم الإيمان . . ذلك فيما عدا قرية واحدة ـ والقرية:القوم , والتسمية هكذا إيذان بأن الرسالات كانت في قرى الحضر ولم تكن في محلات البدو ـ ولا يفّصل السياق هنا قصة يونس وقومه , إنما يشير إلى خاتمتها بهذه الإشارة ; لأن الخاتمة وحدها هي المقصودة هنا، فلا نزيدها نحن تفصيلاً، وحسبنا أن ندرك أن قوم يونس كان عذاب مخز يتهددهم , فلما آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه كُشف عنهم العذاب , وتُرِكوا يتمتعون بالحياة إلى أجل، ولو لم يؤمنوا لحل العذاب بهم وِفاقاً لسنة الله المترتبة آثارها على تصرفات خلقه . .

حسبنا هذا لندرك أمرين هامين:

أولهما:الإهابة بالمكذبين أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة , فلعلهم ناجون كما نجا قوم يونس من عذاب الخزي في الحياة الدنيا، وهو الغرض المباشر من سياق القصة هذا المساق. .

وثانيهما:أن سنة الله لم تتعطل ولم تقف بكشف هذا العذاب, وترك قوم يونس يتمتعون فترة أخرى، بل مضت ونفذت، لأن مقتضى سنة الله كان أن يحل العذاب بهم لو أصروا على تكذيبهم حتى يجيء، فلما عدلوا قبل مجيئه جرت السنة بإنجائهم نتيجة لهذا العدول، فلا جبرية إذن في تصرفات الناس, ولكن الجبرية في ترتيب آثارها عليها.