الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية
في ضوء الإثبات والتنـزيه

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وعطائه الذي لا يستقصى، أحمده كما ينبغي لجلاله، وكريم عطائه، وعظيم سلطانه، وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على نبيه المصطفى وآله وصحبه.
أما بعد: فلما كانت معرفة الله تعالى أول ما يجب على الإنسان في دينه، وكانت هذه المعرفة - لا تتم على الوجه الأكمل- إلا بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله في خلقه، والإيمان بتلك الأسماء والصفات والأفعال، وإقرارها، إذ بها تعرف الله إلى عباده سبحانه.
وعلى الرغم من هذا كله قد تعرض باب الأسماء والصفات لعواصف شديدة هُوجٍ منذ زمن طويل، فنقلت تلك العواصف أشياء كثيرة من أماكنها، وألقت بها في غير مواضعها، فتغيرت بسبب ذلك مفاهيم عديدة، فالتبست مسائل هذا الباب على كثير من الناس، حتى عجز أغلب طلاب العلم عن التمييز، بين الحق والباطل، فربما انعكس عليهم الأمر فرأوا الحق باطلاً، والباطل حقاً، مع العلم أن معرفة الله التي لا تتم إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، هي زبدة دعوة الرسل، وخلاصتها، وعندها تلتقي جميعها مع اختلاف مناهجها وشرائعها، لأن جميع الرسل إنما أرسلوا ليعرفوا الناس ربهم وخالقهم فيعبدوه في ضوء تلك المعرفة، فلما كان باب الأسماء والصفات بهذه المثابة، وله هذه المكانة- وقد تعرض مع ذلك للعواصف التي وصفتها، ووصفت آثارها - جعلت موضوع رسالتي لنيل درجة (الدكتوراه) إن شاء الله معالجة مباحث هذا الباب، بعنوان: (الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء التنـزيه والإثبات)، نعم هذا هو السبب الذي من أجله اخترت هذا الموضوع، لأني تأكدت أن مسائل هذا الباب لم تكن محل عناية ودراسة اليوم -كما يجب- وأن العقيدة السلفية صار يجهلها كثير من شبابنا، ويتصورونها بغير صورتها، ليس العقيدة السلفية (التفويض المطلق) كما يظن كثير منهم، وليست هي تلك الحيرة التي يسمونها (الوقوف) كما يظن البعض الآخر، بل هي شيء آخر وراء ذلك كله، ولكنها سهلة وواضحة كل الوضوح إذا فهمت على حقيقتها، إذ ليس فيها أدنى غموض وهي بريئة من التعقيد والتفلسف.
وهي أن يفهم التالي لكتاب الله معاني نصوص الصفات التي تصف الله تعالى بأنه سميع بصير مثلاً، ويثبتها على ظاهرهما كما يليق بالله، ويثبت له كلاماً حقيقياً يسمع، ووجها كريماً يرى يومَ القيامة ويدين مبسوطتين، إلى آخر الصفات التي سوف تمر بنا في هذه الرسالة، يثبتها ولا يؤولها، فيحرفها بالتأويل (مفوضاً) إلى الله عز وجل حقيقتها وكيفيتها، كيلا يتوهم أن حقيقة سمعه وبصره كحقيقة سمع المخلوق وبصره، ولئلا يتوهم أن إثبات الكلام الحقيقي له سبحانه يلزم منه إثبات مخارج الحروف المعتادة كاللسان والشفتين، ولئلا يظن أيضاً أن إثبات الوجه والقدم واليدين مثلاً يعني إثبات الجوارح له سبحانه، كل ذلك غير وارد، لأن لوازم صفات المخلوق لا تلزم صفات الخالق، كما أن لوازم ذوات المخلوق لم تلزم ذاته سبحانه، إذ لا مناسبة بين الخالق والمخلوق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}1.
بل الواجب إثبات هذه الصفات على الوجه الذي يليق بالله عز وجل دون تمثيل، أو تشبيه، لأنه تعالى له يد حقيقية يأخذ بها، ويقبض، ويعطي، ويطوي بها السموات كما يليق به سبحانه.
وفي ضوء هذا الشرح والبيان لعقيدة السلف بالاختصار، يلزم كل من يريد أن يفهم هذه العقيدة أن يفرق بين التفويضين اللذين سبق أن أشرنا إليهما.
أحدهما: تفويض المعنى والحقيقة والكيفية معاً بحيث يكون حظ التالي لكتاب الله مجرد سرد النصوص دون فهم لمعانيها بالنسبة لنصوص الصفات، وهو الذي سميناه - فيما تقدم - التفويض المطلق، فنسبة هذا التفويض إلى السلف خطأ، ومنشأ هذا الخطأ أن هذه العقيدة ليست محل عناية ودراسة - كما قلت - وإنما يتحدث الناس عنها حديثاً عابراً وعادياً لا مصدر له، فيقول القائل: إن السلف الصالح لا يفهمون معاني آيات الصفات وأحاديث الصفات، ثم تتناقل الناس هذا النوع من الثناء (الفريد) ومعنى ذلك أن عقيدة السلف لا يتصورها كثير من الناس في الوقت الحاضر، وهذا مما يشغل بال المصلحين المهتمين بشئون المسلمين، ويحزنهم كثيراً، لأن جهل المرء ما يعتقده نحو ربه وخالقه ومعبوده ليس بالأمر الهين، بل هو من الخطورة بمكان.
أما النوع الثاني من التفويض: فهو تفويض الحقيقة والكيفية مع فهم معاني النصوص وتدبرها وتعقلها، وهذا ما يدين الله به السلف قديماً وحديثاً، فَلْيُفْهَم جيداً، لنفرق بين التفويضين، ولبيان هذه الحقيقة لا بد من عرض العقيدة السلفية كما فهمها السلف الذين نزل فيهم القرآن بلغتهم، ويجانب ذلك لا بد من عرض ما يقابلها من الآراء المحدثة المخالفة لأن الأشياء تعرف بأضدادها، كما تعرف بنظائرها - كما يقولون - هذه هي الغاية التي نسعى إليها ونريد -تحقيقها من وراء هذا البحث بإذن الله، وهي تتلخص في نقطتين اثنتين:
1- عرض العقيدة السلفية على حقيقتها كما فهمها السلف، لذا استخدمنا هذا المنهج التاريخي الاصطلاحي.
2- عرض الآراء المخالفة لها لأجل المقارنة من باب معرفة محاسن الأشياء بأضدادها، فكان المنهج المقارن هو وسيلتي في هذا المعنى.
ثم إنني حاولت في عرضها أن أجعل الصفات الخبرية وصفات الأفعال التي اختلف فيها السلف والخلف كثيراً نقطة ارتكاز للبحث في موضوعات الرسالة مع عدم إهمال بقية الصفات.
وقد حرصت هذا الحرص للأمور الآتية مستعيناً بالله وحده:
الأمر الأول: هو رجاء أن ينفع الله بما سجلت في هذه الرسالة من المسائل والمناقشات لتصحيح تلك المفاهيم الخاطئة لدى طلبة العلم الذين قد يحتاجون إلى مثل هذه البضاعة المتواضعة، وهم الذين نخاف عليهم من التأثر بذلك الخلط بين منهج السلف ومنهج أهل التفويض والوقوف والحيرة.
الأمر الثاني: الرغبة الشديدة في المساهمة في تخفيف حدة الخلاف بين الفريقين: السلف والخلف المعاصرين ببيان منهج السلف على حقيقته في باب الأسماء والصفات عامة، وفي الصفات المختلف فيها خاصة، لأن منهج السلف أصبح مجهولاً لدى كثير من شبابنا كما قلت، ولأن القضاء على الخلاف أو تخفيفه إنما يكون بعد توفيق الله وعونه ببيان الحقائق بأسلوب صريح وواضح، وذكر المحاسن والمثالب للطرفين، وتنوير الناس في أمرهم في ضوء الواقع، ولقصد النصح والإصلاح والتصحيح.