بسم الله الرحمن الرحيم
موسى عليه السلام قاطع لم يقطع
الموضوع الأول من سلسلة من تسعة مواضيع على الأقل إن شاء الله تعالى
إني لأعجب من أُمَّة تبحث عن سر تسمية موسى عليه السلام في غير اللغة التي نزل بها، بعد أن ورد اسمه في القرآن (136مرة)، ولا يذكر أحد في القرآن إلا بالاسم الذي يوافق سبب تسميته، وسيرته، ويكون مفتاحًا وعنوانًا لسيرته، وكان هذا الاسم تلخيصًا لسيرة عظيمة عطرة لأحد أنبياء الله، وكان هو الوحيد عليه السلام الذي كلمه الله تكليمًا0
ولمعرفة سبب تسمية موسى عليه السلام نقول: إن كل جذر في اللغة يتكون من حرفي الميم والسين وأحد حروف العلة قبلهما أو بينهما أو بعدهما يكون عن شيء يخالط غيره ويؤثر فيه0
فالموسى :هي السكين التي تخالط الأشياء بالدخول فيها فتؤثر فيها بالقطع، أو الجرح0
والمس :هو ما يصيب الشيء فيختلط به ويؤثر في سلوكه، كما في قوله تعالى في آكل الربا: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ00(275) البقرة، وإخبار الله تعالى وشهادته عن القرآن في قوله (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) الواقعة، أي لا يصيب فضل القرآن ويؤثر فيه تأثيرًا يغير حياته إلا المطهرون0
والماس : حجر يقطع كل الحجارة ولا يقطعه منها شيء، ويستعل للتأثير على الأشياء وتغيير شكلها0
والمساء : يؤثر في الناس فيقطع انتشارهم بظلامه، ويجعلهم يأوون إلى مساكنهم، تاركين ومؤخرين إنجاز أعمالهم0
وأمس : هو اليوم الذي مضى وانقطع فلا حكم لك عليه ويلزمك ما كان منك فيه0
وموسى عليه السلام يدخل في خضم الأخطار، ويخرج منها كل مرة سالمًا معافىً؛
- فأول أمره أن حَمْل أُمِّه به، ووضعها له كان في العام الذي يقتل فيه أبناء بني إسرائيل، فعمى خبره عن فرعون الذي كان يطلبه، فنجا من دون كل الأطفال الذين ولدوا في ذلك العام.
- ولما وضعته أُمِّه في التابوت وألقته في اليم، نجا موسى الطفل الذي لا حول له ولا قوة في التابوت من اليم، ودفعته المياه إلى جنات فرعون.
- فلما أراد أن يقتله فرعون نجا من بطشه، ورباه في حضنه: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) القصص.
- ولما قَتل رجلاً من قوم فرعون واجتمع الملأ على قتله سبقهم إليه من جاء يحذره، فنجاه الله إلى مدين .... وهناك وجد من يؤويه، ويزوجه، ويجد عنده الأمان عشر سنين، حتى بعثه الله رسولاً إلى فرعون وملئه.
- ولما دخل على فرعون - مدعي الألوهية- يتحداه ويبلغه رسالة ربه، وأظهر له الآيات التي أعطاه الله إياها، حبس عن اتخاذ قرار بقتله، واستشار الملأ من حوله فقالوا: (قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) الشعراء، وضرب له موعدًا مع السحرة، وخرج موسى وأخاه عليهما السلام من عند الطاغية سالمين.
- ولما قابل السحرة وأبطل الله سحرهم، آمنوا وسجدوا لله رب العالمين -وانقطع ظهر السحر في أرض مصر- فقتلهم فرعون، وصلبهم في جذوع النخل، ولم يفعل لموسى عليه السلام شيئًا.
- ومكث موسى عليه السلام فيهم مدة سلط الله عليهم فيها الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وأخذهم بالسنين، ونقص الأموال والأنفس، وفي كل مرة يستنجدون بموسى عليه السلام ليدعوَ ربه، فيخرجهم الله مما هم فيه، فلا يوفون بعهدهم، ويظلون على كفرهم، حتى قال فرعون لقومه وهو صاحب القرار: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ 00(26) غافر، وهو لم يشاور قومه من قبل في قتل السحرة وصلبهم.
- ولما خرج موسى بقومه عنوة لحقهم فرعون فأغرقه الله وجنوده في اليم، فقطع فرعون وظلمه، وانتهى ملكه في الأرض، ونجا موسى عليه السلام ومن معه.
- وقد قطع موسى عليه السلام بمبعثه من الله رسولاً إليهم؛ عناء بني إسرائيل واستعبادهم والظلم الذي كان يقع عليهم، وقطع بقاءهم في أرض مصر، لتخلوا مصر بعد ذلك للإسلام دون تأثير لهم عليها0
- ولما اتهمه قومه لأنه كان لا يتعرى أمامهم قطع التهمة عنه وبرأه الله منها، أو لاتهامهم له بقتل هارون عليه السلام لأنه مات معه بعيدًا عنهم.
- ولما أخذتهم الصاعقة كان هو الوحيد الذي بقي سالمًا من بينهم، وقال مخاطبًا الله تعالى: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا(155) الأعراف،
- ولما عصوه ورفضوا دخول الأرض المقدسة قطع الله تعالى بينه وبينهم، وعاقبهم الله بالتيه في الأرض، فقال تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) المائدة.
هذه سيرة موسى عليه السلام التي توافق اسمه؛ مُضي وقطع، وانقطاع السبيل على كل من يريد قطعه، فكان عليه السلام قاطعًا غير مقطوع، ولم يخاطب موسى عليه السلام باسمه إلا بعد قتله للقبطي وانقطاع الصلة بينه وبين فرعون.
وأما قول الله تعالى لأم موسى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) القصص، فقد أشارت الآية إلى أمور متعلقة باسمه، وطمأنة من الله عز وجل لأمه، فالذي نجاه من معرفة فرعون وجنوده بالحمل به، وبولادته، سينجيه من اليم، وسينجيه من فرعون، وسيعود إليها سالمًا، وأنه سيكون رسولاً محفوظًًا من الله لتبليغ رسالته، وإخراج بني إسرائيل من مصر، وهذا ما كانت بنو إسرائيل تنتظره، وهو الذي يخشاه فرعون، ويكون فيه هلاكه0
وقد خص الله عز وجل موسى عليه السلام بالتكليم دون الأنبياء، وجعل اسمه في القرآني أكثر الأسماء ترددًا من بين الأنبياء، لموافقة ذلك اسمه؛ لأنه اسمه دال على المضي والقطع، وكلام الله لا يرده شيء ولا يدحضه، ولا مبدل لكلماته سبحانه وتعالى إلا هو، والله تعالى أعلم.
أبو مسلم/ عبد المجيد العرابلي