السؤال :
لقد اعتنقت الإسلام - والحمد لله - بعد أن كنت كاثوليكية متنكرة لكل جميل يسديه لي ربي سبحانه وتعالى ، فمنذ أن كنت صغيرة جداً وأنا أرتكب الذنوب والمعاصي ، وفي أحد الأيام - وبعد إحدى تلك المعاصي العظيمة التي فعلتها - توجهت إلى الله بالدعاء ، وليس إلى عيسى عليه السلام ، رغم أني كنت ما زلت على الكفر ، فطلبت منه سبحانه أن يرحمني ، ووعدته بأني لن أتزوج أبداً إن غفر لي تلك المعصية وعفا عني ، وكان فعلاً ما طلبت ، وهاأنذا الآن مسلمة - ولله الحمد - ، وكان مما تعلمته في الإسلام ضرورة الزواج للمسلمة ، وكيف أنه يحميها ويصون عفتها ، لذا صرت أتمنى الزواج من رجل صالح يعينني على ديني وتديني.
فلا أدري كيف أتصرف ، وقد كان ما كان من وعد وعهد قطعته لله على نفسي في عدم الزواج !
أم كيف لامرأة مثلي كانت على شتى أنواع الذنوب والمعاصي والشرور ، وتريد الآن أن تتزوج رجلاً صالحاً..! هل لي عذر أو مبرر في كل هذا ؟!




الجواب :
الحمد لله
لعل البداية بما ورد في آخر سؤالك خير ما يمكننا أن نقدمه لك في هذه العجالة ، وذلك حين تتساءلين إن كان " لامرأة مثلك كانت على شتى أنواع الذنوب والمعاصي وتريد الآن أن تتزوج رجلاً صالحاً..! هل لي عذر أو مبرر في كل هذا ؟! " وذلك على حد تعبيرك .
ونحن نقول لك : إنه لا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يحول بينك وبين التوبة الصادقة لله عز وجل ، وأن يحول دون رحمة الله بك ، وعفوه عنك ، ورضاه عما يؤول إليه حالك ، فقد أخبرنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بكل ما يبعث في أنفسنا الطمأنينة والأمل والرجاء ، فقال عز وجل : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ . وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ . بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ . وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ . وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) الزمر/53-62.
وحدثنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام بحديث شريف ينبغي على كل مسلم أن يحفظه ويستحضره كي يعيش مطمئنا ومقبلا على ربه الكريم سبحانه ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي . يَا ابْنَ آدَمَ ! إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ) رواه الترمذي في " السنن " (3540) وقال : حسن غريب . وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " .
وإن أكثر ما نتخوفه عليك : أن يكون الشيطان يريد أن يذكرك بذنبك الماضي ، ليوقعك في اليأس والقنوط من رحمة الله ، أو ليعيدك إلى ذلك الماضي الأسود !!
وإنما الواجب عليك الآن أن تقبلي على ربك سبحانه ، بحسن ظن ، وعظيم رجاء في فضله ومنه عليك ، وأن تطوي صفحة الماضي ، وتدخلي في عالم الشريعة الإسلامية الرحبة التي وسعت البلاد والعباد رحمة وشفقة ، كما قال ربنا جل وعلا : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا . يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) النساء/26-28.
واعلمي أنك بإسلامك ، وتركك لأعمال الجاهلية ، وأحوال الشرك ، ومعاصي الماضي ، وتوبتك إلى ربك عز وجل : قد أقبلت على ربك بصفحة بيضاء نقية ؛ فإن الإسلام يهدم ما كان قبله ؛ فقط عليك أن تحافظي على بياض تلك الصحفة ، وألا تعودي إلى تلك المعاصي التي تألمت منها ، وندمت عليها .
ومن مظاهر رحمة الله بنا أنه عز وجل لم يقبل منا أي عهد ووعد على مخالفة شرعه ، وتركُ الزواج تقربا إليه ليس بطاعة ، بل هو مخالفة ، فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أحد الناس يخبر عن نفسه أن اختار التبتل والانقطاع للعبادة ، وترك تزوج النساء ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) رواه البخاري (5063) ومسلم (1401). وعن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال : " رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا " رواه البخاري (5073) .
قال ابن حجر رحمه الله : " المراد بالتبتل هنا الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة " انتهى من" فتح الباري " (9/118) .
فتَركُ الزواج على سبيل التعبد لله تعالى : ليس من شريعة الإسلام ، بل هو من شريعة الجاهلية ، أو هو من الأمور التي نسخت من شرائع الأمم السابقة ، فكل من حلف يمينا ، أو عاهد الله عز وجل أن يعزف عن الزواج ، تقربا إليه سبحانه : فيمينه باطلة ، وعهده لغو لا حكم له ، سواء حلف أو نذر قبل الإسلام أم بعده ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلَا يَمِينَ لَهُ ) رواه أبوداود في " السنن " (2191) وحسنه الألباني في " صحيح أبي داود " ، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ ) رواه البخاري (6696) .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" إذا كانت النذور فيما ليس بعبادة ، أو كانت في عبادة لا تطاق وشرعت لها تخفيفات ، أو كانت مصادمة لأمر ضروري أو حاجي في الدين : سقطت ، كما إذا حلف بصدقة ماله ، فإنه يجزئه الثلث ، أو نذر المشي إلى مكة راجلا فلم يقدر ، فإنه يركب ويُهدي ، أو كما إذا نذر أن لا يتزوج أو لا يأكل الطعام [الفلاني] ، فإنه يسقط حكمه ، إلى أشباه ذلك ، فانظر كيف صحبه الرفق الشرعي فيما أدخل نفسه فيه من المشقات ، فعلى هذا كون الشارع لا يقصد إدخال المشقة على المكلف عام في المأمورات والمنهيات " انتهى من " الموافقات " (2/257)
فهنيئا لك الإسلام ، وهنيئا لك الهداية والاستقامة ، ونرجو لك زواجا سعيدا من الرجل الصالح بإذن الله عز وجل . ولا إثم عليك بسبب مخالفتك عهدك مع الله تعالى ، فهو عهد مذموم في أصله ، فلا يجب الوفاء به ، وكفارته إطعام عشرة مساكين ، لكل مسكين وجبة كافية من غالب قوت الناس أو قيمتها من النقد . كما سبق في الفتوى رقم : (21833) ، (20419) .
والله أعلم .