تأصيل آخر فاسد وقريب من التوسعة في المسائل المختلف فيها، والإلزام بالمتفق عليه، التوسعة في الظنيات، والإلزام في القطعيات.

وهذا مابنى عليه الدكتور صلاح الصاوي كتابه (الثوابت والمتغيرات) !!من إصدارات المنتدى الإسلامي ببريطانيا!وسمى المسائل القطعية بالثوابت!والظنية بالمتغيرات!!مع تلازم تأصيله مع التأصيل المذكور، فقد جعل من جملة الأمارات على ظنية النصوقوع الخلاف فيه، وأدرج في المتغيرات جملة من مسائل العقيدة لوقع الخلاف فيها.

قال الصاوي: في (الثوابت والمتغيرات) (ص45) والمقصود في هذا الفصل أن نميز الثوابت من المتغيرات، والقطعيات من الظنيات في ذلك كله، حتى لا نتجاوز محكماً مقطوعاً به تحت دعوى التحديث أو الإحياء، أو تتهاوج صفوفنا بسبب الخلاف في ظني متشابه تحت دعوى السلفية والتمسك بالأصول، والمجافاة عن أهل البدع! اهـ. وفسر الصاوي القطعي (الثابت) بالنص الصحيح الذي لا معارض له، أو الإجماع الصريح الذي لا منازعة في ثبوته، إلا منازعة تعد من قبيل الزلة أو الفلتة التي لا يعتد بها ولا يعول عليها 0 اهـ

في (الثوابت والمتغيرات) (ص34) وإذا تأملت تفسير الصاوي للقطعي والظني؛ فإنك تعلم أنه لم يأت بأمر يطرد: فوقوع الخلاف في النص لا تسلبه صفة القطعية، فكثير من مسائل الفروع قطعية وإن كان فيها خلاف. في (المسودة) لآل تيمية (ص442) والقطعي: هو الذي يجب ثبوت مدلوله، وعدم علم المخالف بقطعية النص لا تنفي ثبوتها في نفسها. في (طريق الوصول) (ص53) ثم إن القطع والظن ليس وصفاً للقول في نفسه، بل هو أمر إضافي حسب حال المعتقد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في (منهاج السنة 5/91) فكون المسألة قطعية أو ظنية أمر إضافي بحسب حال المعتقدين، ليس هو صفاً للقول في نفسه؛ فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده، وغيره لا يعرف ذلك لا قطعاً ولا ظناً، وقد يكون الإنسان ذكياً قوي الذهن، سريع الإدراك علماً وظناً، فيعرف من الحق ويقطع به مالا يتصور غيره، ولا يعرفه لا علماً ولا ظناً، فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة، وبحسب قدرته على الاستدلال. والناس يختلفون في هذا وهذا، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمةللقول المتنازع فيه، حتى يقال: كل من خالفه قد خالف القطعي، بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد، وهذا مما يخالف فيه الناس. فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس 0 اهـ

وكتاب (الثوابت والمتغيرات) فيه أمور كثيرة تستدعي تحذير القارئ منها؛ إذ أسرف مؤلفه غفر الله له كثيراً في الاعتذار لعباد القبور والأولياء والصالحين، وجره ذلك إلى تأويلات سمجة وتقسيمات باطلة: فتراه قد جعل الاستغاثة بالأولياء من التوسل المختلف فيه!وجعل غاية ما في الطواف بالقبور أنه بدعة، وليست شركاً، والتمس العذر لهم بذلك بأنه طواف تحية وليس طواف عبادة، كذا قال!!وما علم هذا أن الطواف بكل حال عبادة، وأنه لم يرد في شيء من الشرع الطواف إلا ببيت الله العتيق. ثم وصف الطواف بالتحية لا يخرجه عن كونه عبادة، بل إنه يزيد ذلك تاكيداً؛ لأنه نزل الضريح منزلة الكعبة، فشرع بتحيته بالطواف!يقول الصاوي: في (الثوابت والمتغيرات) ص 219) بعد الاتفاق على أصل اعتبار التأويل عند إجراء الأحكام، قد يقع النزاع في اعتبارالتأويل في مسألة بعينها، كاعتبار ما يتأوله الصوفية في النذور التي تقدم إلى أصحاب القبور، على أن النذر لله، والثواب لأوليائه، وفي الدعاء الذي يتوجهون به إلى أصحاب القبور، على أن المقصود به طلب الشفاعة من الولي إلى الله، وأن الميت في قبره يسمع، كما ذهب إلى ذلك كثير من أهل العلم، وفي الطواف بالأضرحة على أنه طواف تحية وليس طواف عبادة، فقصاراه أن يكون بدعاً لا شركاً، وفي طلب المدد على أنه طلب للدعاء والشفاعة إلى الله، فيؤول إلى التوسل المختلف فيه 0 اهـ

وعذر المؤلف أيضاً من سجد للأولياء لقيام شبهة التوقير، قائلاً: في (الثوابت والمتغيرات) ص187) ولهذا يختلف من سجد للأولياء يظن ذلك من باب التوقير الواجب لهم، وأنه يثاب عليه صاحبه باعتباره قربة إلى الله وبين من سجد للبقر من الهندوس أو للنار، من المجوس ونحوه. فإن الشبهة في الأولى قائمة، واحتمال الجهل قريب ومتوجه، وأما في الثانية؛ فإن الأمر جد مختلف، والعذر فيها ليس بمتوجه، إذا لم ترد شريعة قط بتعظيم الأبقار أو النار، ولكن وردت الشرائع بمحبة الصالحين وتوقيرهم نوفي التبرك بآثارهم خلاف معتبر، بل جاءت الشرائع السابقة بسجود إخوة يوسف ليوسف، وسجود أبويه له، ومن قبل ذلك سجود الملائكة لآدم سجود تحية وليس سجود عبادة. والتدرج من التوقير المشروع إلى التبرك الممنوع محتمل الوقوع، واحتمال اللبس في ذلك قريب، فتأمل 0 اهـ

واستخف المؤلف بالسلفيين وعظم من شأن من يسميهم (الحركات الجهادية) فقال: في (الثوابت والمتغيرات) ص15/16) أما المذاهب العلمية؛ فهي حركات إحيائية، تسعى غالباً داخل إطار إسلامي قائم للدعوة إلى عدد من الأصول العلمية والعملية، ترى أن اعتقادها من مقتضيات الإيمان، ولا تواجه خصومة حاضرة مع أحد من غير المسلمين، ولا تملك برنامجاً محدداً لتغيير الواقع. فالإطار الذي تتحرك فيه الحركات الجهادية يختلف عن الإطار الذي تتحرك فيه المذاهب العلمية. فالحركات الجهادية تعبئ الأمة بمختلف طوائفها للوقوف في وجه خطر يستهدف أصل وجودها، ويسعى لاجتثاث شأفتها، ومعقد ولائها وبرائها وهو الالتزام المجمل بالإسلام، والاستعداد للمشاركة في هذا الجهاد. أما المذاهب العلمية؛ فإن حركتها تتجه في الأصل إلى من ثبت له عقد الإسلام لدعوته إلى التزام اختياراتها العلمية والعملية، وخصوماتها تنعقد مع ما تراه من البدع والمحدثات، ودائرة ولائها وبرائها هي الالتزام باختياراتها الخاصة، والتجافي عن اختيار المذاهب الأخرى اهـ

قلت: وهذا الإفك المفترى لا ينطلي على بصير متجرد عن الهوى، فالسلفيون وحدهم في العصر الحديث هم الذين أقاموا الدين الصحيح والدولة؛ دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بالكتاب الهادي، وسيف الإمام محمد بن سعود رحمه الله الناصر. أما الحركات الجهادية التي يمجدها الصاوي وتملك برنامجاً واضحاً (زعموا)؛ فلا أقامت ديناً ولا أبقت دنيا، بل ذاق المسلمون الأمرين منها، وآل أمرهم إلى شر أعظم مما كانوا فيه قبل تهورات (الحركات الجهادية). فأي الفريقين أحق بالفخر إن كنتم تعلمون؟وفي الكتاب أمور كثيرة تحتاج إلى تحذير وتنبيه لا تتسع هذه الرسالة المختصرة لذلك، فلعل الله ييسر من يقوم بهذا الواجب.



ليس كل مخطئ مأجوراً

قال الإمام الشافعي رحمه الله: في (الرسالة ص53) ومن تكلف ماجهل، وما لم تُثبِته معرفتُه؛ كانت موافقته للصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة 0 والله أعلم. وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه 0 اهـ

وكلام الإمام الشافعي رحمه الله هذا، عليه نور الوحي، فكم من خلاف وقع كان سببه القول على الله بغير علم، وقد قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ‍وحديث بريدة في القضاة « اثنان في النار: رجل قضى للناس على جهل فهو في النار » . انظر (إرواء الغليل) (2614-2628) وكما قيل: في (اللطف واللطائف ص41) لو سكت من لا يعلم؛ لسقط الخلاف اهـ

وكم من خلاف كان سببه العدول عن الكتاب والسنة؛ إما لقول معظم، أو لرأي محدث، أو شبهة مضلة، كما قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}، والقاضي الآخر الذي في النار: «رجل عرف الحق، فجار؛ فهو في النار}. وكم من خلاف قد ظهر فيه الحق ظهوراً واضحاً بيناً، ومع ذلك يخالف البعض فيها لا لخفاء الحكم، بل تعدياً؟!فهؤلاء ظالمون آثمون بلا ريب.

قال شيخ الإسلام: في (مجموع الفتاوى 19/142) بتصرف يسير. إن الإحكام الشرعية التي نصبت عليها أدلة قطعية معلومة، إذا بلغت هذه الأدلة للمكلف بلاغاً يمكنه من اتباعها، فخالفها تفريطاً في جنب الله وتعدياً لحدود الله: فلا ريب أنه مخطئ آثم، وإن هذا الفعل سبب لعقوبة الله في الدنيا والآخرة 0 اهـ

وقال شيخ الإسلام: في (مجموع الفتاوى) (3/317) فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهي عنها، أو لأتباع هواه بغير هدى من الله فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد اهـ



يتبع ...