و في هذه الظروف الشديدة تخرج ثلة من المسلمين مهاجرة بدينها إلى أرض الحبشة .. فأرسلت قريش مبعوثيها عمر بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة في أثرهم ليقابلا ملك الحبشة ليسلم المسلمين إليهم ليعذبوهم و يردوهم عن دينهم .. خافت قريش ألا تبلغ لدى النجاشي ما تريد فحمّلت هدايا ضخمة للأساقفة وكبار رجال الكنيسة .. وفي وقار مهيب وتواضع جليل جلس النجاشي على كرسيه العالي تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية وجلس أمامه المسلمون المهاجرون تغشاهم سكينة الله وتظلهم رحمته .. ووقف مبعوثا قريش يلقيان بالاتهام قائلين: "أيها الملك .. إنه قد ضوى لك الى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك بل جاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم و أعمامهم وعشائرهم لتردّهم اليهم".. وولّى النجاشي وجهه شطر المسلمين ملقيا عليهم سؤاله: "ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم واستغنيتم به عن ديننا؟" .. نهض جعفر بن أبي طالب وقال: أيها الملك .. كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيئ الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا الى الله لنوحّده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان.. وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم و الكف عن الدماء .. ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات .. فصدّقناه وآمنّا به واتبعناه على ما جاءه من ربه فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا فغدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا الى عبادة الأوثان والى ما كنّا عليه من الخبائث .. فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك" .. ألقى جعفر بهذه الكلمات فملأت نفس النجاشي احساسا والتفت الى جعفر وسأله: هل معك مما أنزل على رسولكم شيء؟ قال جعفر: نعم .. قال النجاشي: فاقرأه علي .. ومضى جعفر يتلو آيات من سورة مريم في خشوع فبكى النجاشي وبكى معه أساقفته جميعا .. ولما كفكف دموعه الهاطلة الغزيرة التفت الى مبعوثي قريش وقال: "ان هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة" .. لقد أسلم الرجل ثم قال "انطلقا فلا والله لا أسلمهم اليكما" .. و فيه نزلت الآيات التالية "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" .. و بعدما آذي المشركون المسلمين في مكة و أخرجوهم من ديارهم .. بدأوا بالتشاور لقتل النبي صلى الله عليه و سلم .. فينادي النبي صلى الله عليه و سلم في الحجاج "من يحملني حتى أبلغ رسالة ربي؟" .. ثم يخرج إلى الطائف و معه زيد بن حارثة لكي يعينوه على دعوته .. و لكن القوم كانوا غلاظ القلوب فقال له أحدهم: "ألم يجد الله غيرك حتى يبعثك؟" وقال ثاني: "لو كنت نبيا حقا ًلأمزقن ثياب الكعبة" وقال ثالث: "لو كنت نبيا ً حقا ً لا أكلمك أبداً" .. و لم يكتفوا بذلك بل أغروا به سفهاءهم و غلمناهم ليرموه بالحجارة و يسبوه .. و هو يجري أمامهم ينكفئ عليه زيد ليحميه من حجارة الغلمان و السفهاء .. حتى تدمى قدميه الشريفتين .. و يجلس بجوار حائط لبستان عنب يملكه عتبة و شيبة ابني ربيعة فيبكي داعيا ربه تعالى قائلا "اللهم أنت رب المستضعفين و أنت ربي .. إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري .. أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا من أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك .. إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي .. و لكن عافيتك هي أوسع لي .. لك العتبى حتى ترضى و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم" .. فيتنزل جبريل عليه السلام و معه ملك الجبال قائلا "إن الله تعالى أرسلني إليك و معي ملك الجبال فإن شئت أمرته أن يطبق عليهم الأخشبين" .. فيرد رحمة الله تعالى المهداة إلى العالمين "لا يا أخي يا جبريل لعل الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله" .. يشفق عليه كافرين من كفار مكة حينما يرياه هكذا و هما شيبة و عتبة بن ربيعة .. فيرسلا غلامهما عداسا بطبق به عنب و يقولا له إياك أن يفتنك هذا الرجل عن دينك .. فيأتي عداس بعنقود العنب يقربه من المصطفى صلى الله عليه و سلم .. فيسأله النبي صلى الله عليه و سلم "من أي البلاد الرجل؟" .. يرد عداس "من نينوى" .. فيسترسل النبي صلى الله عليه و سلم "بلد النبي يونس" .. فيقول الرجل و ما أدراك ما يونس؟ فيجيب النبي صلى الله عليه و سلم "هو نبي و أنا نبي" .. ينكفئ عداس على قدمي النبي صلى الله عليه و سلم الكريمتين يقبلهما و يعلن عداس إسلامه بنيبي الأمميين الذي يرسله الله في آخر الزمان .. ثم يعود النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة .. فيقف له المشركون بالمرصاد يريدوه أن لا يعود لداره .. فيعلن مطعم بن عدي أن محمدا في جواري و حماي حتى لا يؤذيه أحد و لا يمسه أحد .. و يدخل النبي صلى الله عليه و سلم مكة ليطوف بالبيت و يصلي ثم يعود لبيته .. و تعزية لما فيه يأتي إليه جبريل عليه السلام و هو نائم بجوار البيت العتيق تحقيقا لما أخبر به النبي دانيال "من أسباط بني اسرائيل" .. وإذا مع سحب السماء مثل ابن آدم أتى وجاء الى القديم الأيام فقربوه قدامه" .. ليأخذ جبريل النبي صلى الله عليه و سلم في رحلة الإسراء إلى الأقصى ليصلي بالنبيين و في رحلة المعراج ليرى من آيات ربه الكبرى و ليصعده ربه إلى ما بعد سدرة المنتهى و يقربه من عرشه حيث لا يتعدى ذلك أقرب خلق الله إلى الله و هو جبريل عليه السلام .. ثم يرافقه جبريل في رحلة العودة .. و يخبر النبي برحلة الاسراء و المعراج كفار مكة بعلامات بيت المقدس و بقوافل آتية في الطريق علامة على صدقه .. فيكذبه أكثر المشركون و يصدقه أبو بكر الصديق .. يخبر الله تعالى نبيه بمكر الكافرين من إجماعهم على قتل النبي صلى الله عليه و سلم .. و يأمره الله تعالى بالخروج وتكفل بحمايته وقال له "إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ"