:bsm:




أن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه قد حرّموا أشياء على أنفسهم

فهل يُقال إنهم شرًّعوا ؟!

ننبه هنا إلى معنيين للتحريم غير المعنى التشريعي الذي يقابل التحليل؛ أحدهما عرفي والآخر لغوي.

قد يتلاعب بهما مرجئة العصر ويحاولون خلطهما عليك بالتشريع والتبديل الذي يمارسه ويدين به طواغيتهم

فالعرفي: هو لفظة (التحريم) التي يستعملهاالناس ويريدون بها اليمين، فلا يقال فيمن´ظاهر امرأته وقال: ”أنت عليَّ حرام كظهر أمي“ مثلاً أنه مشرّع أو بدّل حكم الله.. بل ذلك عند الفقهاء يمين يحلفه الرجل ويقطعه على نفسه بهجران زوجته وعدم مسها، لغضب أو عقوبة أو نحوه، وقد ذمه الله تعالى وجعل فيه أغلظ الكفارات، تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.. فدل هذا على أن المراد بالتحريم ها هنا (اليمين)، إذ التشريع لا كفارة يمين له يا أولي العقول.

ثم هناك فرق يتميز فيه هذا النوع من التحريم عن التحريم التشريعي الذي يقابل بالتحليل والإباحة ويفعله المشركون مع الله، وهو ما ذكره الشاطبي في الاعتصام من أن المحرِّم باليمين ”لا يلزم بهذا التحريم إلا نفسه ولا يُعدى هذا التحريم إلى غيره“ كما هو الشأن في التحريم الكفري الذي يجتمع عليه المشركون ويتواطؤون ويصطلحون ويلزمون به من هو تحت سلطانهم. ثم اليمين التحريمية تتعلق بالمنع فقط وليس لها علاقة بالتحليل ولا بالإباحة خلافاً للتشريع الذي يتطرق للتحليل والإباحة كما يتطرق للتحريم.. وهذا أمر بيّنٌ واضح..

فمن هذا النوع - أعني التحريم باليمين قول النبي صلى الله عليه وسلم المروي في صحيح البخاري أنه قال لبعض نسائه: ”كنت أشرب عسلاً عند زينب فلن أعود له وقد حلفت“ فقوله صلى الله عليه وسلم: ”فلن أعود له“ هو معنى ما تعارف عليه الناس من (التحريم) في معنى اليمين في قولهم: ”هذا علي حرام“ أو قولهم: ”حرام علي كذا وكذا إن لم أفعل كذا“ فليس مثل هذا ولا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ”ولن أعود له“ تشريع ولا تبديل ولا تقنين ولا تواطؤ أو إصطلاح أو اجتماع كما يورد أعداء الله في إلزاماتهم.. إذ في هذه القولة نزل قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) [التحريم: 1]، إلى قوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) [التحريم: 2]، وإذا كان تحليل مثل هذا هو الكفارة، علم أن تحريمه كان يميناً لا تشريعاً ولا تبديلاً..

فلا نلتفت بعد هذا إلى تلبيسات مرجئة العصر وإلزاماتهم الكفرية الفاسدة عندما تجادلهم في كفر طواغيتهم المشرعين، فيحتجون بأمثال هذه الآيات ويقولون: ”الرسول حرّم فهل هو كافر؟؟“.. (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف: 5] فقد علمت مما تقدم أن هذا ليس تشريعاً، وما كان للنبي صلوات الله وسلامه عليه أن يشرع إذ هو ليس بمشرع ولا يحل له ذلك.. إن هو إلا وحي يوحى.. وما هو إلا نذير ومبلغ عن المشرع الواحد الأحد..

والمعنى الآخر: هو (التحريم) الذي يأتي ويراد به معناه اللغوي المحض، لا الاصطلاحي الشرعي التشريعي.. وهو الامتناع المجرد ومنه قول امرىء القيس:

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك iiحرام


أي ”ممتنع“. وقول الآخر:

حرام على عيني أن تطعما الكرى وأن ترفئا حتى ألاقيك يا iiهند


أي: ”ممنوع على عيناي“.. هذا إن لم يرد اليمين، فيلتحق بالمعنى العرفي الأول.

وقل قال تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص: 12]، فليس المراد في هذا، التحريم التشريعي وإنما المنع فقط. قال القرطبي: ”أي منعناه من الارتضاع“ وقال: ”وهذا تحريم منع لا تحريم شرع“ اهـ.

ومثله قوله تعالى: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [المائدة: 26]، قال القرطبي: ”معنى محرمة: أي أنهم ممنوعون من دخولها“ وقال في هذا الموضع أيضاً: ”فهو تحريم منع لا تحريم شرع“ اهـ.

فننبه إلى هذا المعنى واعلموا أنه غير المعنى التشريعي الذي جعله الطغاة اليوم من خصائصهم وحقوقهم وسلطاتهم هم وأتباعهم وبرلماناتهم، ويتواطؤون عليه ويصطلحون، ويتفقون.. فإن جاءك بعض أوليائهم من مرجئة العصر المجادلين عنهم
بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: 87].. الآية. وقالوا: هؤلاء قد شرعوا، ومع هذا خاطبهم الله بنداء الإيمان.. !


فقل لهم: المراد بهذا يا أعداء أنفسكم التحريم بمعناه اللغوي المحض، لا التشريعي الذي يمارسه طواغيتكم والذي هو صنو التحليل وأخوه..


فالمراد منع النفس عن بعض الطيبات التي أحلها الله لعباده، نذراً أو تقشفاً وترهباً.. بدليل أنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا الامتناع من تناول بعض الطيبات زهداً في الدنيا وتقشفاً.. فلا هم شرعوا ولا بدلوا ولا قننوا. أو تحمل على المعنى السابق،
أعني (اليمين) كما ذكر المفسرون في هذه الآية، وهو مروي عن ابن عباس، أن الذين أرادوا الامتناع عن بعض الطيبات، كانوا قد حلفوا على ذلك فلما نزلت هذه الآية.. قالوا: ما نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله قوله تعالى بعد ذلك مباشرة: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ..) [المائدة: 89] الآية، وبها استدل الشافعي رحمه الله على قوله بأن الحلف أو اليمين لا يتعلق بهما تحريم الحلال وأن تحريم الحلال لغو، فلا كفارة على من قال مثل ذلك عنده وعند مالك رحمهما الله تعالى، وسواء كان الصواب هذا المعنى أو ذاك.. فكلاهما ليس من التشريع في شيء كما عرفت..


وقد تكون من باب النذر، كالذي حرم على نفسه الجلوس والكلام مؤقتاً بأن نذر الصوم قائماً في الشمس ساكتاً، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بإتمام صومه.. ومنه قوله تعالى عن نبي الله يعقوب: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) [آل عمران: 93] فقد جاء في تفسيرها أنه مرض فنذر على نفسه نذراً إن شفاه الله أن يمتنع عن أكل أطيب الطعام عنده فحرم على نفسه لحوم الإبل، وذلك قبل أن تنزل التوراة. فلم يكن منهياً عن مثل ذلك، وقد كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئاً بالنذر أو باليمين لم يجز لهم أن يفعلوه ثم نسخ الله ذلك فنزلت كفارة اليمين.
فهو أيضاً من جنس اليمين أو النذر وليس من التشريع في شيء، ولذلك نقل الشاطبي في الاعتصام عن القاضي إسماعيل قوله: ”وهذه الأشياء وما أشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ والمنسوخ، فكان الناسخ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: 87]، فلما وقع النهي لم يجز للإنسان أن يقول: الطعام علي حرام وما أشبه ذلك، فإن قال إنسان شيئاً من ذلك كان قوله باطلاً، وإن حلف على ذلك بالله كان له أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه“ اهـ. فلا يلبس عليك مرجئة العصر فيقولون: ”هذا نبي الله قد شرع من تلقاء نفسه ودونما أمر من الله، فهل هو كافر؟؟“، فما هذا بتحريم تشريع، ولو كان كذلك لما كان الناسخ له هذه الآية التي هي في شأن اليمين أو النذر أو الامتناع المجرد زهداً وتقشفاً.. ثم أنت قد علمت مما تقدم أن إفراد الله في التشريع وعدم إشراك أحد معه في ذلك، هو من أصول التوحيد التي اتفقت عليها كافة الشرائع، وقد كان الإخلال بهذا الأصل من جملة المكفرات التي كفر بها اليهود والنصارى كما تعرفون .. وأصل كهذا لا يدخل بحال في أبواب المنسوخ كما هو معلوم في الأصول.. فصح أن مثل هذا لم يكن تشريعاً من نبي الله يعقوب بيقين..

ومثل ذلك ما رواه البخاري ومسلم في النفر الذين سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته.. فقام بعضهم: ”أصوم الدهر ولا أفطر“ وقال آخر: ”وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً“.. إلى آخر ما قالوه.. ورغم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر عليهم ذلك، وقال: ”من رغب عن سنتي فليس مني“.. إلا أن هذا كله لا علاقة له بالتشريع أو التبديل كما علمت.. فلا هم شرعوا ولا زعم أحد منهم أن له السلطة التشريعية كما هو حال طغاة العصر.. فلا تغتر بشبه ساقطة كهذه.. فإن هذا كله في واد وواقع طواغيت الزمان في واد آخر..

سارت مشرّقة وسرت مغرّبا شتان بين مشرّق iiومغرّب


فإن الأمر اليوم كما يقول الشيخ عبد المجيد الشاذلي في كتابه (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) ص(376) عن واقعنا، بعد أن سرد نصوصاً من القوانين الوضعية، وحقائق حول الدساتير ونصوصها.

قال: ”والآن.. هذا الواقع قد تجاوز حد التشريع المطلق إلى الإقرار الصريح بحق التشريع لغير الله.

بحيث أن نصوص الشريعة لا تكتسب صفة القانون - عندهم - لو أرادوا العمل بها إلا بصدورها عمن يملك حق التشريع - عندهم - تعبيراً عن إرادته، وهذا فقط هو الذي يعطيها صفة القانون فشأنها في ذلك كشأن غيرها من العرف أو القانون الفرنسي أو آراء فقهاء القانون أو ما استقرت عليه المحاكم.

أما صدورها عن الله سبحانه وتعالى فلا يعطيها صفة القانون لأنه - عندهم - ليس مصدر السلطات وليس من حقه التشريع“ اهـ.

ويقول ص(367): ”وهذا الواقع قد تجاوز مرتبة المعصية أو البدعة بل قد تجاوز التشريع المطلق إلى ما وراء ذلك، كيف تختلط قضية المعاصي بقضية التشريع مع ما بينهما من البون الشاسع؟“.

”وإذا كانت البدعة متميزة عن المعصية بفوارق واضحة جداً، وما ذلك إلا لوضعها على مضاهاة التشريع. أفلا يتضح الفرق بين المعصية والتشريع المطلق؟“ اهـ.

ويمكننا أن نقول في خلاصة هذا الموضع أن لفظة التحريم، لفظة مشتركة مثل بقية الألفاظ التي تحمل أكثر من معنى، فبعض معانيها لغوي أو عرفي وبعضها شرعي.. كلفظة الإيمان فإنها في اللغة التصديق ولكن الله تعالى نقلها إلى مسمى ومعنى شرعي غير المعنى اللغوي فزادها قول اللسان وعمل القلب والجوارح، وكذلك الكفر فكما أن للكفر معناه اللغوي وأصله تغطية الشيء، فيدخل فيه كفران العشير وكفران النعمة وغير ذلك من الأعمال التي يطلق عليها الله تعالى لفظة الكفر، ولا يراد بها الكفر الناقل عن الملة ومنها - كما عرفتم - ما هو ناقل عن الملة.
وكذلك الشأن في لفظة التحريم هذه.. فإنها تطلق على معان - وإن كانت مذمومة قد نهى الله تعالى عنها - ولكنها لا تصل إلى الشرك والكفر، كالامتناع عن بعض الطيبات التي أحلها الله تعالى سواء بالأَيْمان أو زهداً وتقشفاً ورهبانية وكذلك تطلق على التشريع الذي إن صرف إلى غير الله سبحانه كان شركاً وكفراً أكبر مخرجا عن ملة الإسلام.

فالله عز وجل يسمي ما يشاء بما شاء، ونحن ليس لنا من الأمر شيء إلا أن نقول سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.. يقول ابن حزم رحمه الله تعالى في الفصل (3/229): ”إننا لا نسمي في الشريعة اسماً إلا بأن يأمرنا الله تعالى أن نسميه، أو يبيح لنا الله بالنص أن نسميه، لأننا لا ندري مراد الله عز وجل منا إلا بوحي وارد من عنده، ومع هذا فإن الله عز وجل يقول منكراً لمن سمى في الشريعة شيئاً بغير إذنه عز وجل: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى) [النجم: 23-24].

فصح أنه لا تسمية مباحة لملك ولا لنبي دون الله تعالى، ومن خالف هذا فقد افترى على الله عز وجل الكذب، وخالف القرآن..“ اهـ.

والله اعلم

فما قولكم أخواني



منقول بتصرف للافادة