بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،
أثير الكثير من اللغط حول الشعر في العصر الجاهلي فمنهم من انكره مثل طه حسين ومنهم من شكك فيه وانقسم حوله الادباء خاصة بعد ظهور كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) الى فرق كثيرة.
ونريد هنا ان نسلط الضوء ولو قليلا على بعض ملامح تلك الفترة الادبية.
فالجاهلية لا تعني الجهل اطلاقاً حيث يقول الدكتور شوقي ضيف رحمه الله (الجاهلية لا تعني الجهل الذي هو ضد العلم انما هي لفظة تعبر عن السفه والغضب والنزق) تاريخ الاب العربي:العصر الجاهلي).
اما نشاة هذا الشعر وكيف بدأ فيصعب تحديدها الا أن ملامحه الاولى كما يقول ابن سلام في (طبقات الشعراء) بدات بأن يقول الرجل ابياتاً من الشعر في حاجته وكان أول شعرهم الرجز لأناس من بني تميم. وكان أول من قصّد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة (الزير سالم).
وعلى اية حال فقد ظهر الشعر في الجاهلية وأصبح معلماً أدبيا من معالم العرب في لغتهم الخالدة. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحُّ منه".
وقد ذهب البعض مخطئاً الى انكار هذا الشعر مثل طه حسين معتبرا وجود لهجات مختلفة بين القبائل في الجاهلية وأن الشعر لا يعبر عن اختلاف هذه اللهجات بل هو كله بلهجة قريش وهذا ما يدعو الى انكاره البتة. غير ان هذا الأمر ليس صحيحاً لأسباب متعددة. منها مثلا ما ذكره المستشرق (لايل)في مقدمته لكتاب المفضليات حيث قال" أن من وضعوا الشعر الجاهلي أو اتهموا بوضعه كان لا بد لهم من وجود نماذج سابقة وتقاليد أدبية موروثة قلدوها وحاكوها. ونفس هذه المحاكاة تدل على وجود أصل كانوا يحاكونه واذن فلا بد ان يكون هناك شعر جاهلي عرفه الاسلاميون وحاكوه" وهذه شهادة الاعداء قبل الاصدقاء وتنسف انكار طه حسين للشعر الجاهلي. أما الامر الاخر فهو لماذا كان كل الشعر الجاهلي بلهجة قريش وليس غيرها من اللهجات؟؟؟ والجواب على ذلك بسيط وموجود في بطون الكتب التي لم يحسن البعض قرائتها. فقد سادت لهجة قريش عند العرب للاسباب التالية:
1- كانت معظم القبائل تجل قريشاً وتحترمها لانهم كانوا سدنة البيت الحرام
2- كانت قريش أفصح الالسنة العربية لغة وبيانا بحكم موقعهم اولا ولتوافد الحجيج عليهم ولبعدهم عن اماكن الاعاجم الذين بلا شك يؤثرون في اللهجات بحكم السكن والقرب. يقول ابن خلدون في مقدمته "كانت لغة قريش افصح اللغات العربية وأصرمها لبعدها عن بلاد الاعاجم من جميع جهاتهم حتى ان سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند اهل الصناعة العربية"
ويقول ايضا احمد بن فارس صاحب كتاب (الصاحبي في فقه اللغة) "وكانت قريش مع فصاحتها اذا اتتهم الوفود من العرب في مواسم الحج تخيروا من كلامهم واشعارهم احسن لغاتهم واصفى كلامهم فاجتمع اليهم من اللغة ما صاروا به لذلك افصح العرب"
3- وبطبيعة الحال بعد كل ما سبق فقد كان للشعراء مبررهم في نظم القصائد بلغة قريش إذ أنها تعبر عن مستوى لغوي رفيع لا تلحقه اللهجات العربية الاخرى ومن هنا يمكن الحكم على القصيدة ان كانت من الغث او من السمين. فمثلا كان احد الشعراء ويدعى (علقمة الفحل) يكتب قصيدة في كل عام ثم يعرضها على قريش ليحكموا له فيها فيقولون له "هذه القصيدة سمط الدهر" لمتانة قصائده. فكيف سيحكموا له فيها بالجودة ان لم تكن بلهجتهم وان لم تعبر عن مستوى شعري عالي؟؟فمن مطالع قصائده مثلا: ذَهبت من الهجران في كل مذهبِ ولم يكُ حقاً كل هذا التجنبِ
وقصيدته الاخرى التي مطلعها:
طَحا بك قلبٌ في الحسان طروبُ بعيدَ الشباب عصرَ حان مشيبُ

من هذا كله نستنتج ان الشعر الجاهلي كان موجودا وعرفنا العلة في كونه كله بلهجة قريش واما موضوع الانتحال فيمكن تمييزه عن طريق الرواية كما يقول الاستاذ شوقي ضيف رحمه الله. اذ أن هناك رواة كذابون لا يعتدُّ بروايتهم أمثال خلف الاحمر وحماد الراوية والكلبي (محمد بن السائب) والواقدي وغيرهم. وهناك ايضا الرواة الصادقون أمثال الاصمعي والمفضل الضّبي
اما اهم مصادر الشعر الجاهلي التي تعتبر مقبولة ويوثق بروايتها فمنها مثلا:
كتاب المفضليات للمفضل الضبي وهي 126 قصيدة اضيف لها اربع قصائد وجدت في بعض النسخ. وهي موزعة على 67 شاعراً منهم 47 شاعراً جاهليا. وكذلك كتاب الاصمعيات للاصمعي ويحتوي على 92 قصيدة موزعة على 71 شاعراً منهم 40 شاعراً جاهلياً. وفي هذين الكتابين تحديدا كلمات مهجورة لم تثبتها المعاجم. ومن المصادر الجاهلية ايضا المعلقات العشر وديوان الهذليين بشرح السكري ودواوين الشعرا الجاهليين الستة (امرىء القيس، زهير، طرفة،عنترة،النابغة،علقمة).
والله الهادي الى سواء السبيل