بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

إنها الدنيا

لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان وقيادة النفوس رأوا الدولة للنفس الأمارة لجأوا إلى حصن التضرع والالتجاء كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده .

شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر .

لاح لهم المشتهَى فلما مدوا أيدي التناول بان لأبصار البصائر خيط الفخ فطاروا بأجنحة الحذر وصوبوا إلى الرحيل الثاني « يا ليت قومي يعلمون» تلمح القوم الوجود ففهموا المقصود فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل وشمروا للسير في سواء السبيل فالناس مشتغلون بالفضلات وهو في قطع الفلوات وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح .

وقع ثعلبان في شبكة، فقال أحدهما للآخر : أين الملتقى بعد هذا ؟ فقال : بعد يومين في الدباغة .

تالله ما كانت الأيام إلا مناماً فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر .

ما مضى من الدنيا أحلاماً وما بقي منها أماني، والوقت ضائع بينهما .

كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه وولد لا يعذره وجار لا يأمنه وصاحب لا ينصحه وشريك لا ينصفه وعدو لا ينام عن معاداته ونفس أمارة بالسوء ودنيا متزينة وهوى مرد وشهوة غالبة له وغضب قاهر وشيطان مزين وضعف مستول عليه، فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة .

اقشعرت الأرض وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات وهُزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق ، وبالجناح وقد علق « وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».

اشتر نفسك اليوم فإن السوق قائمة والثمن موجود والبضائع رخيصة .

وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير . ذلك يوم التغابن، يوم يعض الظالم على يديه :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * * * أبصرت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله * * * وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه .
إذا حملت على القلب هموم الدنيا وأثقالها وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها فما أسرع ما تقف به:
ومشتت العزمات ينفق عمره * * * حيران لا ظفر ولا إخفاق
هل السائق العجلان يملك أمره * * * فما كل سير اليعملات و خيذ
رويداً بأخفاف المطي فإنما * * * تداس جباه تحتها وخدود
« اليعملات : جمع يعملة، وهي الناقة النجيبة، المعتملة المطبوعة على العمل. و خيذ : خذ البعير : أسرع الخطى . »

من تلمح حلاوة العافية هان عليه مرارة الصبر .

الغاية أول في التقدير، آخر في الوجود، مبدأ في نظر العقل، منتهى في منازل الوصول .

ألفت عجزاً لعادة فلو علت بك همتك ربى المعالي لاحت لك أنوار العزائم .
إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور .

بينك وبين الفائزين جبل الهوى نزلوا بين يديه ونزلت خلفه، فاطو فضل ما تنزل تلحق بالقوم .

الدنيا مضمار سباق وقد انعقد وخفي السباق، والناس في المضمار بين فارس وراجل، وأصحاب حمر معقرة .
سوف ترى إذا انجلى الغبار * * * أفرس تحتك أم حمار

في الطبع شره والحمية أوفق .
لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى .
حبة المشتهى تحت فخ التلف فتفكر الذبح وقد هان الصبر .

قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب وشدة الحذر من فوت المأمول .
البخيل فقير لا يؤجر على فقره .
الصبر على عطش الضر ولا الشرب من شرعة من . . . .
تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها .
لا تسأل سوى مولاك فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه .
غرس الخلوة يثمر الأنس .
استوحش مما لا يدوم معك واستأنس بمن لا يفارقك .
عزلة الجاهل فساد وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها و سقاؤها .

إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة واستحضر الكفر جرت بينهم مناجاة .
أتاك حديث لا يمل سماعه * * * شهي إلي نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها * * * وزال عن القلب المعنى ظلامه

إذا أراد القدر شخصاً بذر في أرض قلبه بذر التوفيق ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة ثم أقام عليه بأطوار المراقبة واستخدم له حارس العلم، فإذا الزرع قائم على سوقه .

إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة أشرقت أرض القلب بنور ربها .

إذا جن الليل تغالب النور السهر، فالخوف والشوق في مقدم عسكر اليقظة، والكسل والتواني في كتيبة الغفلة، فإذا العزم حمل على الميمنة وانهزمت جنود التفريط فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان وردت الغنيمة لأهلها .

يا مستفتحاً باب المعاش بغير إقليد التقوى كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الرزق .

لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد المعاصي سد في باب الكسب وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه .
تالله ما جئتكم زائراً * * * إلا وجدت الأرض تطوى لي
لا انثنى عزمي عن بابكم * * * إلا عثرت بأذيالي

الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيئ للسباق . من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله .

كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا فإن الولد يتبع الأم .
الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها فكيف تعدو خلفها .
الدنيا جيفة والأسد لا يقع على الجيف .
الدنيا مجاز والآخرة وطن و الأوطار إنما تطلب في الأوطان .
(نقل بتصريف عن ابن القيم رحمة الله)

نسأل الله لنا ولكم الهدي والتقي والعفاف والغني.